محاضرات

لماذا يجب تعريب التدريس الجامعي؟

أيها الأخوة الأفاضل،

خَطَر ببالي أن كلمتي قد تكون أوْقَع وأنْفَع إذا كانت موجزة ملخّصة في عدد من الحقائق وعدد من التوصيات·

فاعذروني إذا عرضتُها بين أيديكم بهذا العرض الجاف، ملخّصة في حقائق ثَمَانٍ وتوصيات ثَمَانٍ·

 

1.الحقائق

الحقيقة الأولى:

أنَّ اللغةَ ليست لغةَ العلم فقط ولكنها لغةُ الثقافة والحضارة· والثقافةُ هي ذلك الجو الاجتماعي الذي تَتَنَامى فيه شخصية الفرد وطِبَاعه، وهو جوٌّ يتألَّفُ من قِيَمٍ وأفكار وأخلاق وأسلوب للحياة، ويشارك كلُّ فردٍ من أفراد المجتمع في إغنائه· فيومَ تكون لغةُ الثقافة غيرَ لغةِ الأمة، تنهارُ الأمة وتتلاشى· ويوم تكون لغةُ العلم غيرَ لغة الثقافة، تصاب الأمة بفُصَامٍ ثقافي كهذا الذي نراه اليوم في جُلِّ البلدان العربية والإسلامية، ويغدو العلم غُصْناً غريباً مُطَعَّماً في شجرة لا تَألَفُه، ويؤدّي ذلك إلى بقاء الأمةِ أمةً ناقلة بدل أن تكون أمةً مُبْدِعَة·

من أجل ذلك التزمَتْ جميع أمم العالم بتدريس العلوم بلغاتها الوطنية بدءاً باليابان وانتهاءً بإسرائيل التي أصرَّت على إحياء لغتها العبرية الميتة وجعلتها لغة الأبحاث الذرية في معهد وايزمان· ويوم قال الأستاذ سلامة موسى قبل أربعين عاماً: >إن اليهود الصهيونيين قد انقلبوا عبرانيين وأحيوا لغتهم التي كانت قد انقرضت·· وظنّي أنهم يخسرون بذلك لأن هذه اللغة لن تتّسع للثقافة العصرية كما أن الإيرلنديين الوطنيين قد خسروا أيضاً بإحياء لغتهم القديمة لأن اللغة الإنجليزية خيرٌ لهم – ولو أنها لغة الفاتحين الغاصبين – من لغتهم التي لن تتسع للثقافة العصرية··< يوم قال ذلك مريداً صرف العرب عن استعمال لغتهم ليستعملوا لغة الفاتحين الغاصبين، كذَّبه التاريخ بأعلى صوته كِذّاباً ·· وتبوّأت إسرائيل هذا المركز العلمي المتقدم في العالم لأنها استعملت في تدريس العلوم لغتها التي انقرضت·

 

الحقيقة الثانية:

أن اللغة العربية تتفرّد مِنْ بين اللغات جميعاً بأنها لغة أمة تسنّمت ذروة السيادة الحضارية في العالم نيّفاً وعشرة قرون· ولم يكد أعداؤها يصدّقون أنهم تمكّنوا من تنحيتها عن مركز الصدارة والسيادة والريادة· ولذلك فإنهم يفعلون ما في وُسعهم حتى لا تصبح هذه اللغة لغة العلم والتكنولوجيا بأي شكل من الأشكال··· إن الأمر إذَنْ يصبح جِدَّ خطير··· والحلُّ هو إقناع عديدٍ من أبنائها المخلصين بأن مصلحة الأمة تقتضي التدريس باللغة الأجنبية·· فإذا كَثُرَ المقتنعون صارت الدعوة إلى التعليم باللغة العربية شيئاً يستنكره أبناؤها المخلصون· وأحِبُّ أن أقول بكل صراحة: ذِكْرُ هذه الحقيقة ليس استثارةً للمشاعر أو استجاشةً للعواطف، ولكنه واقعٌ يغفل عنه الكثيرون أو يتغافلونه·

 

الحقيقة الثالثة:

أن المناسبات التي قُلِبَتْ فيها لغة التدريس في العصر الحديث من العربية إلى الأجنبية توافقت دائماً مع الاحتلال الأجنبي· فلغةُ التعليم الطبي مثلاً في كلية طب قصر العيني بمصر ظلَّتْ هي اللغة العربية سبعين عاماً، وقُلِبَتْ إلى الإنجليزية على يد اللورد كرومر بعد الاحتلال البريطاني·· بل تعدّى الأمر ذلك إلى الدراسة الثانوية، بل الابتدائية· ففي عدد جريدة الأهرام الذي صدر يوم 71 مارس 7981 نقرأ الخبر التالي:

>قُضيَ الأمر، وصدر الأمر العالي بتعيين المستر دنلوب سكرتيراً عاماً لنظارة المعارف· وقد شرع المستر دنلوب بعد الاتفاق مع جناب اللورد كرومر في هدم الدراسة الثانوية التي هي أعظم أركان المعارف<·

واستمرّ الأمر على هذا المنوال حتى سنة 7091 حين تقدم عدد من أعضاء الجمعية التشريعية باقتراح يطلبون فيه إرجاع اللغة العربية في المدارس، وإبطال التعليم باللغة الإنجليزية، وأن يكون الشروع في ذلك من السنة التالية· وهنا وقف ناظر المعارف – ربما وفق خطة رسمها – ليقول: >إذا فرضنا أنه يمكننا أن نجعل التعليم من الآن باللغة العربية، وشرعنا فيه فعلاً، فإننا نكون قد أسأنا إلى بلادنا، وإلى أنفسنا إساءة كبرى، لأنه لا يمكن للّذين يتعلمون على هذا النحو أن يتوظفوا في الجمارك، و(البوسطة) والمحاكم المختلطة، والمصالح العديدة المختلفة التابعة للحكومة، والتي يقتضي نظامها وجود كثيرين من الموظفين العارفين باحدى اللغات الأجنبية حق المعرفة· ولا أن يستخدموا في (بنك) أو مصرف، ولا أن يشتركوا في شركة من الشركات الأجنبية التي كثر تأسيسها الآن في بلادنا· ولا أن يكونوا محامين أمام المحاكم المختلطة، ولا مترجمين ولا غير ذلك من كل ما يحتاج إلى البراعة في لغة أجنبية، وهو كثير جداً في بلادنا· وإذا قطعنا النظر عن ذلك كله وأردنا أن نشرع من فورنا في التعليم باللغة العربية، صادفنا صعوبات مادية وهي قلة المعلمين الأكفاء الذين يمكنهم تعليم الفنون المختلفة باللغة العربية· فإذا كنتم توافقون على الاقتراح المقدم إليكم، كنتم كمن يحاول الصعود إلى السماء بلا سلم· لذلك كله أرجو ألا تندفعوا في هذه المسألة وراء إحساسكم وأن تستشيروا – قبل البت فيها – العقل والحكمة إذْ لا فائدة لكم أن تطلبوا طلباً تعلمون من الآن أنه لا يقابل بغير الرفض لاستحالة تنفيذه···<·

وليس يخفى أن تلك الحجج التي سيقت ضد استعمال اللغة العربية في التعليم الابتدائي والثانوي، تُساق اليوم نفسها ضد استعمال اللغة العربية في التعليم الجامعي·

وقد كان من فضل الله على مصر والعرب جميعاً أنّ أعضاء الجمعية التشريعية المصرية المناصرين للتعريب أصرّوا على موقفهم، رغم تلك الحجج المتذرعة بـ >العقل والحكمة< لناظر المعارف· وتقدموا بمشروع مضاد لموقف الناظر فاز بأغلبية ستين صوتاً، ولم يصوت مع ناظر المعارف في تجميد التعريب غير خمسة أصوات عدا الوزراء: >فوضعت الحكومة أمام الأمر الواقع··· وابتدىء في تحويل التعليم باللغة العربية في المدارس الابتدائية من سنة 8091· ولم يأت عام 2191 حتى صار التدريس في جميع المدارس الابتدائية باللغة العربية واستأنفت القافلة سيرها إلى اليوم بعد هذه المحنة التي دامت قرابة عشرين عاماً<·

وإذا شئتم أمثلة أخرى فإنّ لغةَ التعليم في الكلية الإنجيلية السورية، التي أصبحت الجامعةَ الأمريكية في بيروت، ظلَّت بالعربية قرابةَ ثلث قرن، وقُلِبَتْ إلى الإنكليزية مع الظروف المؤلمة التي نعرفها في أوائل هذا القرن· ولغة التعليم الطبي في تونس والجزائر والمغرب هي لغة المحتل المستعمر الفرنسي، وفي الصومال لغة المستعمر الإيطالي، وفي العراق لغة المحتل الإنكليزي··· هل تكفي هذه الأمثلة؟

 

الحقيقة الرابعة:

أن مستوى تعليم اللغة الأجنبية في المدارس الثانوية منخفضٌ جداً في جميع البلدان العربية، بحيث لا يكاد خريج المدارس الثانوية يعرف أوَّلِيَّاتِ اللغة الأجنبية· ثم يُرَادُ له بهذا الرأسمالِ الضَحْل أن يستوعب علوماً يَسْتَصْعِبُ الإنكليز دراستها بلغتهم هم·· والفرنسيون دراستها بلغتهم هم·· وفي هذا نوعٌ من السادِيَّةِ التعليمية التي يمارسها أساتذة الكليات الجامعية العلمية من حيث يشعرون أو لا يشعرون، ثم في هذا حتماً خَفْضٌ من المستوى العلمي للطالب ولاسيما في سنواته الأولى، إذْ من غير المعقول له أن يستوعب الدروس الهندسية الأساسية أو الطبيَّة الأساسية أو غيرها، بمثل ذلك الرصيد المتواضع من اللغة الأجنبية· نتيجةُ ذلك: انخفاضٌ لاريبَ فيه في مستوى الطالب العلمي·

 

الحقيقة الخامسة:

أن التعليم في كثير من هذه الكليات لا يتم باللغة الأجنبية ولا باللغة العربية، ولكنه يتم بلغة ثالثة مُهَجَّنَة، مما ساهم أكثرَ فأكثر في خَفْض المستوى العلمي لدى الطلاب·

 

الحقيقة السادسة:

أن العراقيل التي تُذكر في وجه تعريب التعليم الجامعي هي في الواقع نتائجُ له وليست بأسباب له· فَلِمَنْ تؤلَّفُ الكتب وتُصْدَرُ المجلات وتُصَاغُ المصطلحات باللغة العربية إذا لم يكن ثَمَّةَ تعليمٌ بالعربية؟ في حين أن التعليم لو كان بالعربية فسيتسابق المؤلفون إلى التأليف واللغويون إلى وضع المصطلحات وسوف تتسابق دور النشر إلى إصدار المجلات العربية·

 

الحقيقة السابعة:

أن عجز الأستاذ الجامعي العربي عن التعليم بالعربية وَهْمٌ كبير أو رُهَابٌ phobia، مَرَدُّهُ إلى هذا الجو النفسي المريض الذي أقيم حول موضوع التعريب، وإلا فهل يصدّق عاقل، أنَّ المرء يعجز عن أن يستعمل لغته الخاصة في التعبير عن أفكاره بأي مناسبة وفي أي موضوع؟

 

 

الحقيقة الثامنة:

أن جميع دساتير الدول العربية تنص على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية، وأن قوانين تنظيم الجامعات في جميع الدول العربية تنص على أن لغة التعليم هي اللغة العربية، وأن التدريس بغير العربية يحتاج إلى استثناء خاص، وأن العودة إلى الأصل وهو التدريس بالعربية لا يحتاج إلى قانون ولا قرار، فالقرار السياسي متضمن حكماً في الدستور والقانون، وإنما الحاجةُ إلى العزم والتوكل على الله·

 

2.التوصيات

التوصية الأولى: أن يقرَّر اعتبارُ عام 6991 عامَ بَدْءِ التعريب في جميع الكليات الجامعية التي لا تستعمل اللغة العربية في التدريس·

التوصية الثانية:  أن تُعْلَنَ السنوات العَشْر التي تبدأ بهذا العام >عَقْداً لتعريب التعليم الجامعي<، يُسْتَكمل التعريب في نهايته ويُتَوَقَّف عن التدريس بغير العربية·

التوصية الثالثة: البدء على الفور باستعمال اللغة العربية في الشرح والتفسير، حتى ولو اضطر المدرس إلى استعمال المصطلحات الأجنبية كما هي في مرحلة انتقالية محدودة، ريثما يتم صَوْغ جميع المصطلحات العربية وتوحيدُها·

التوصية الرابعة: الشروع على الفور في وضع أسئلة الامتحانات باللغتين العربية والأجنبية، والسماح للطالب بالإجابة في الامتحان باللغة العربية·

التوصية الخامسة: قبول تقديم الرسائل الجامعية العليا باللغة العربية وتشجيع ذلك بالحوافز المناسبة·

التوصية السادسة: إلزام الباحثين المتقدمين للحصول على درجة الماجستير والدكتوراه بتقديم ترجمة كاملة لرسائلهم باللغة العربية· وأن تتضمن الامتحانات التي يجتازها المتقدم لدرجة الماجستير والدكتوراه امتحاناً في الترجمة العلمية من العربية وإليها·

التوصية السابعة: أن يكون من شروط الترقية في وظائف هيئات التدريس نشر بحوث باللغة العربية·

التوصية الثامنة: إدخال مقرر اللغة الأجنبية في مناهج الدراسة الطبية في جميع الكليات العلمية وتدريسها بشكل يضمن أن يتقنها الطالب عند تخرجه.

 

3.الخلفية التاريخية

في أواخر الستّينات من القرن العشرين اتّخذ اتحاد الأطباء العرب قرارَيْن مهمَّين؛ أحدهما: أن تكون اللغة العربية هي لغة المحاضرة والمحاورة في جميع مؤتمراته؛ والثاني: تشكيل لجنة لتوحيد المصطلحات الطبية العربية وإعداد معجم طبي موحّد. وقد كان. فأصبحت اللغة العربية لغة مؤتمرات اتحاد الأطباء العرب، وقامت لجنة توحيد المصطلحات حتى الآن بإعداد أربع طبعات من المعجم الطبي الموحّد، بدعم مالي من اتحاد الأطباء العرب، ثم من مجلس وزراء الصحة العرب، ثم من البرنامج العربي لمنظمة الصحة العالمية. وقد بلغت المصطلحات الموحّدة مئة وخمسين ألف مصطلح باللغات العربية والانكليزية والفرنسية والألمانية والأسبانية.

 

في أوائل تسعينات القرن العشرين أصدرت اللجنة الإقليمية لمنظمة الصحة العالمية، وهي مؤلَّفة من وزراء الصحة في دول إقليم شرق المتوسط، ومعظمهم من وزراء الصحة العرب، قراراً بالعمل على جعل لغة تعليم الطب وسائر العلوم الصحية في الكليات والمعاهد الصحية في الإقليم باللغة الوطنية، تنفيذاً للاستـراتيجيـة العالمية لمنظمة الصحة العالمية التي تنص على ((  تحقيق الصحة للجميع  )) واتخاذ أسلوب الرعاية الصحية الأوّلية أسلوباً رئيسياً لتحقيق ذلك، وهو أسلوب يقوم أوّل ما يقوم على التثقيف الصحي لجميع أفراد المجتمع، وهو تثقيف لا يمكن أن يتم إلا باللغة الوطنية. كما قررت اللجنة الإقليمية تخصيص خمسة بالمئة من الميزانيات القُطْرية المرصودة لبرنامج تنمية الموارد البشرية، للنهوض باستعمال اللغة الوطنية في التعليم الصحي والطبي.

 

وقد أدّى تطبيق هذا القرار، مع إضافة الاعتمادات المالية المخصَّصَة بموجبه إلى ميزانية البرنامج العربي للمنظمة، إلى إنجاز عديد من الأنشطة الداعمة لمسيرة التعريب وخصوصاً في:

  • إنتاج وترجمة عدد من الكتب المرجعية الطبية.
  • إنتاج عدد من المنشورات والدوريات المهمة مثل سلسلة الهدي الصحي، وسلسلة المنشورات التقنية.
  • توفير التدريب في ممارسات التعليم والتعلُّم.
  • تبادل المعلومات والخبرات بين البلدان المعنية عن طريق رسالة إخبارية.
  • تنظيم زيارات متبادلة بين أساتذة الطب للاطلاع على تجارب التعريب الناجحة.
  • شراء وتوزيع آلاف النسخ من المراجع الطبية العربية.
  • تقديم منح مالية لدعم الاجتماعات الخاصة بالتعريب ولتمويل أنشطة تتعلّق بالتعريب.

 

أيها الإخوة،

أرجو أن يكون في ما قدّمت بعضُ فائدة، معتذراً عن الاختصار الشديد الذي أرجو أن يسمح بمزيد من الوقت للمناقشة·

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى