كتب

شرح المنطق الإحصائي

قال له صاحبه وهو يحاوره: قد علمتُ مبلغ إيمانِكَ بالإحصاء وإعجابِكَ به، فما قولُك فيما سمعتُ من صاحبنا أبي الحصين؟

قال: وما يقول أبو الحصين؟

قال: يقول: إن منطق الإحصاء يقضي أنه إذا كان ثـمَّةَ رجلان يأكل أحدُهما رغيفَيْن كلَّ يوم، ولا يأكل الآخر شيئاً، فمعنى ذلك أن كلاً منهما يأكلُ وسطياً رغيفاً واحداً !

أليس تقولون إن الوَسَطي(1) يساوي مجموعَ الحالات مقسوماً على عددها؟ فها هنا رغيفان من الأول مع صفر من الثاني، فَالمجموع رغيفان، والعدد اثنان فرغيفان على اثنين: رغيفٌ واحدٌ لكلِّ واحد ؟

فتبسَّم ضاحكاً من قوله .. وقال: سامح الله صاحبك أبا الـحُصين! فالإحصاء يريد أن يحارب هذه السذاجة. ونحن نقول في الإحصاء إن حصةَ الواحد رغيفٌ واحد، مضافٌ إليه أو منقوص منه رغيف واحد ( 1 ± 1 ). وهكذا فللأول رغيفٌ واحد مضاف إليه رغيف واحد فالمجموع رغيفان، وللثاني رغيفٌ واحد منقوص منه رغيفٌ واحد فالمجموع صفر؛ فما تقول؟

قال: بديع؛ ولكن ما هذا “الزائد والناقص” وكيف جئتَ به؟

قال له صاحبه وهو يحاوره: أما اسمه فالانحراف المعياري standard deviation، وأما كيف جئتُ به فلذلك قصةٌ أقصُّها عليك!

يُحكى أنه كان رجلٌ مولَعٌ بقياس أطوال الناس، يُقال له ((  قيس بن باع  )) يزعُمُ أن ذلك يفيد في معرفة المجرمين .. وقد بلغَ من شأنه أن أقنعَ الواليَ بما يقول، فبَعَثَ في البلدة منادياً ينادي في الناس أن ائتوا قيسَ بن باع يَقِسْكم!

وكان لقيس بن باع ((  ذراع  )) يقيس بها تساوي ثمانية وعشرين إصبعاً (1).

وجاء الناس إليه فأخذ يقيسُهم ويقدِّر ذلك بالأصابع. فما جاءه في اليوم الأول بعدَ العصر إلا خمسون رجلاً. وكان منهم رجل قصيـرٌ قـاس أربعـاً وستيـن إصبعاً (2)، وكان منهم رجل طُوال بلغ طولُه أربعاً وسبعين إصبعاً (3)، وكان الباقون بينَ ذلك: اثنان طولُهما خمس وستون إصبعاً، واثنان طولُهما ثلاثٌ وسبعون، وثلاثةٌ طولُهم ستة وستون، وأربعةٌ طولُهم اثنتان وسبعون إصبعاً، ثم خمسةٌ طولهم سبعٌ وستون، وستة طولُهم إحدى وسبعون، وسبعةٌ طولهم ثمان وستون، وثمانية طولهم سبعون إصبعاً، وأحد عشر رجلاً طولُ الواحد منهم تسعة وستون إصبعاً.

قالوا: وكان من أتباعه ومُريديه فتىً ألمعيٌّ يقال له ((  فهم بن شُبَيْر  ))، فقال: يا سيدي! إن مَضَينا نفعل هكذا فستلتبس علينا الأمور، ونجد أنفسنا في طوفان لا قِبَلَ لنا به من المقاييس. قال: نِعِمَّا قلت فما رأيُك؟  قال نرتِّبُ الناس على مجموعات، فنجعلُ كلَّ مجموعة في بابَةٍ (4) واحدة، ثم نصفّ هذه البابات الأصغرَ فالأصغَرَ ..

قال قيسُ بن باع: وكيف يكون ذلك؟

قال نصنعُ جدولاً (5) فيه أحدَ عشر سطراً، ونكتب في كل سطر من جانبه الأيمن قياساً قياساً من هذه الأصابع التي قسناها: ففي

السطر الأول أربعٌ وستون وفي الذي يليه خمسٌ وستون وهكذا. ثم نجعل إلى جانب هذه المقيسات رَقِيماً (6) فكلما مرَّ بنا واحدٌ طولُه مِن طولِ عنوان السطر رَقَمْنا شطبةً قائمـة، فـإذا صِـرْنَ

____________________________________________________________

(1) الذراع تساوي سبعين سنتيمتـراً، والإصبع تساوي سنتيمتـرين ونصف.

(2) 160 سنتيمتـراً.            (4) بابة الشيء: وجهُه وما يصلح له، وباباتُ الكتاب: سطوره.

(3) 185 سنتيمتـراً.            (5) table (6)          .tally.

 

خمسَ شُطَب، جعلنا الخامسة مائلة تسهيلاً للعَدِّ .. ثم نحسبها مِن عددِ الشُطَبِ بعد ذلك.

قالوا: فأعجَبَ ذلك قيسَ بن باع وقال له: افعلْ يرحمك الله. فَصَنَعَ له فهمُ ابن شُبَيْر جدولاً هذه صورتُه:

الأطوال الرَّقيم التكرار
64 | 1
65 || 2
66 ||| 3
67 |||| 5
68 ||||  || 7
69 ||||  ||||  | 11
70 ||||  ||| 8
71 ||||  | 6
72 |||| 4
73 || 2
74 | 1

 

وجاءَ من أقصَى المدينة رجلٌ يسعَى .. قال: قد سمعتُ بما تصنعون، وأنا امرؤٌ معمارٌ أُحْسِن البناءَ وأبرَعُ فيه .. وقد عَنَّ لي أن أبنيَ لكم بما قستُم جداراً، أضَعُ لَبِنَة مقابلَ كلِّ شطبة، وأجعلُ عموداً من اللبِناتِ في مقابل كلِّ طولٍ من أطوالكم فماذا ترون؟

قالوا: افعل. فصنع لهم جداراً هرمياً.

فلما نظر إليه فهمُ بن شبير قال: قد دلَلْتنا يرحمك الله بصنيعكَ على شيء كنَّا عنه غافلين! قال: وما ذاك أصلحَك الله؟ قال: قد تَمَثـَّل لي – والله أعلم – معنَى ما ورد في الأثر: ((  خيرُ الأمور أوساطُها  )) فذلك أقرب إلى فطرة الأشياء .. فقد رأيتُمْ كيف كان عمود الطول الذي هو وَسَط بين الطولين الأقصر والأطول، محتوياً على أكبر عدد من اللَبِنات ثم الذي يليه ثم الذي يليه!

فلما سمع الوالي بما حصل، قال لقد هَمَمْت أن آمُرَ قيسَ بن باعٍ أن يفعلَ ما فَعَلَ في أشياءَ أُخَر، لنتحقق صدْقَ الذي قاله فهمُ بن شُبير. قال فَهْمٌ: أصلحَ الله الوالي! فمُرْهُ فليفعله في شيءٍ واحدٍ

فحسب .. فَلْيَزِنِ الناسَ وليكونوا أناساً آخرين غير الذين قِسْنا أطوالَهم.

فأمَرَ الوالي بالقَبّان فنُصِبَ، ثم أمروا بالناس فوُزنوا .. ثم أَمَر فَهْماً فصَنَعَ جَدْوَلَه، ثم أوعَزَ إلى المعمار فبنى جدارَه .. قال: فوالله ما خالفَ الجدارَ الأول إلا قليلاً!

فعَظُمَ شأنُ هؤلاء النَّفَر في عين الوالي، وقال لهم: فاصنعوا لي يرحمكُمُ الله قاعدةً أعرِفُ بها الوَسَطَ من غيره، فلعلّها أن تعينني في قضائي بين الناس.

قال فهمُ بن شُبير: أما أنا فأرَى أن تجمَعَ عددَ الشُطَب كلِّها، ثم تقسمَها على عدد البابات، فما خرج فهو الوَسَط (1).

وقال قيسُ بن باع: بل الأهوَنُ من ذلك أن تنظر إلى ما تكرَّرَ من الأطوال أو الأوزان أو غير ذلك أكثرَ من سِواه .. فهو الدَّارج (2) الذي يتَّفق مع القيمة الوُسطى.

وقال المعمارُ: أمَا وقد صَفَفْنا الأرقام ورتَّبناها على التَّوَالي، فالرقمُ الذي يأتي في منتصفها هو مُبْتَغَانا، لأنه الناصف (3) لهذه القِيَم … أما تَرَوْن إلى هذا العمود الذي في وسط الجدار؟

فَحَكَّ الوالي عُـثْـنُونَه – والعُـثْنون الشَعَراتُ اللَّوَاتي يَنبُتْنَ على الشفة السفلى – وكان ذا بَصَرٍ بالأمور وقال: أمَّا رأيُك أيها المعمار فصالـحٌ إن كان عددُ البابات وِتراً، فأما إنْ كانَ شَفعاً فأينَ الناصف؟ قال: نجمعُ القيمتَـيْن اللَّتَـيْن في المنتصف ونقسم المجموع على اثنين! قال: فقد أطلنا من حيث أردنا الاختصار!

ثم التفتَ إلى قيس بن باع فقال: قد صحَّ ما قلتَ من أن ما تكرَّرَ أكثرَ من سواه فهو الدارج ولكن ما كل دارجٍ بوسط .. وكم مِنْ عادةٍ دَرَجَ عليها الناسُ وهي أبعدُ ما تكون عن الاعتدال ..

وأما أنت يا فَهْم، فقد وفَّقَكَ الله إلى خير الحلول إن شاء الله، فاحسُب لي على رأيك وَسَطِيَّ الأطوال .. فأمسَكَ ….. وأضافَ إلى جدوله عموداً جديداً فأصبحَ كما يلي:

___________________________________________

(1) mean.(2)                median.

mode.(3)

الأطوال الرقيم التكرار جداء الطول بالتكرار
64 | 1 64 × 1 = 64
65 || 2 65 × 2 = 130

 

66 ||| 3 66 × 3 = 198
67 |||| 5 67 × 5 = 335
68 ||||  || 7 68 × 7 = 476
69 ||||  ||||  | 11 69 × 11 = 737
70 ||||  ||| 8 70 × 8 = 560
71 ||||  | 6 71 × 6 = 426
72 |||| 4 72 × 4 = 288
73 || 2 73 × 2 = 146
74 | 1 74 × 1 = 74
المجموع 3425

ثم أخذ المجموع الذي حصل معه فَقَسَّمهُ على عدد الناس الذين قاسوهم وهو خمسون، فكان الحاصلُ ثمانياً وستين إصبعاً ونصف الإصبع (68.5).

قال قيسُ بن باع: فالدَّارجُ الذي تكرَّرَ إحدى عشرة مرةً تسعٌ وستون (69)، وهو لا يفتـرق عن ذلك كثيراً ولا يتطلَّب منا كل هذا العناء .. وقال المعمار: والرقمُ الذي يأتي في المنتَصَف تسعٌ وستون (69) كذلك وهو من الوسط الذي حَسَـبْـتُمْ قريب!

قال الوالي: فما تقول أنتَ يا فَهْمُ بن شُبَيْر؟

قال: أصلح الله الوالي! فلو كان بعدَ الذي طولُه ثلاث وسبعون إصبعاً عملاقان طولُ كلٍ منهما ثمانون إصبعاً، أفكانَ ذلك يغيِّر من الدَّارِجِ أو النَّاصِفِ شيئاً؟ قال: لا! فالدارج يبقى أكثر توارداً من غيره، والناصف يبقى في المنتصف لا يَرِيم!

قال: أفَمَا بينَ الحالتَيْن مِنْ فَرْق؟

قال: بلى! بل هو فرقٌ بيِّن!

زر الذهاب إلى الأعلى