التذكير والتأنيث في اللغة العربية

مداخلات الجلسة الافتتاحية
د. نادية مصطفى
أشكر الدكتور هيثم الخياط على هذه المحاضرة القيِّمة جداً، وبالرغم من كوني غير مختصة في اللغة العربية إلا أنها تمدني كباحثة ومهتمة بالقضايا التي تدور حولها الحوارات (وخاصة قضية المرأة التي تتردد كثيراً، وندعى لمناقشتها دوماً). وقد قَدَّمَتْ هذه المحاضرة حججاً قوية وهامة جداً من واقع لسان العرب، ومن الخطاب والخبر في القرآن والسنة عن موضوع المرأة. ونحن لدينا تعوُّد على استدعاء التاريخ والتراث الفكري والأصول لنستمد منها الحجج على وضع المرأة في الإسلام، وأعتقد أن محاضرة اليوم قد أضافت إلى رصيد ما لدينا من حجج في الحوار حول وضع المرأة في الإسلام، ولكن يبقى أن نحسِّن وضع المرأة والمسلمين في الواقع، ونحسِّن كذلك وضع لغتنا العربية العظيمة.
أ. محسن قنديل
أحيي المنصة وأقول للمحاضر ” السوريون حبات قلوبنا، وهم أهلونا وعشيرتنا، إن أقاموا فأهلاً وإن رحلوا رافقتهم السلامة “. وأقول إنني أيام الوحدة المصرية السورية كنت أذهب إلى سورية كثيراً وأجلس في مقاهي حلب، وذات مرة سمعت خطاباً للرئيس عبد الناصر فمال علي أحد رواد المقهى وقال: يا أخي عندما يخطب عبد الناصر أعتقد أن سيبويه كان مخطئاً. ولعل الدكتور هيثم يذكر خطب مصطفى النحاس وإبراهيم باشا عبد الهادي وخطب العرش، إلى أن غيرت ثورة 23 يوليو هذه المفاهيم.
وأسأل المحاضر لماذا لا يجئ ذكر الخليل بن أحمد قبل ذكر سيبويه الفارسي الأصل الذى كان في موقع التلميذ بالنسبة للخليل (الذي لم يكن يؤلف كتباً)، بينما كان سيبويه يكتب عنه ما يقول.
د. عبد الحميد مدكور
أبدأ بشكر كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وبرنامج حوار الحضارات على تخصيص هذا الجهد لدراسة موضوع شديد الأهمية لحاضرنا ومستقبلنا، وهو ” اللغة والهوية وحوار الحضارات”. وأثني على الكلمة الجامعة التي قدم بها سعادة عميد كلية الاقتصاد هذه المحاضرة، وهي كلمة تجمع بين الفكر والسياسة والاجتماع والتربية إلى جوانب كثيرة جداً تتعلق اللغة ومكانتها في المجتمع. ثم أثني ثناء كبيراً على تلك المحاضرة القيمة التي قدما لنا الدكتور هيثم الخياط، وليس هذا بغريب عليه. لكنني أتوقف معه في تلك القضية الكلية التي أقام المحاضرة – أو جزءاً كبيراً منها – عليها، وهي القضية التى تقول إنه ليس للذكور في لغة العرب صيغة محددة، وأنه إذا جاء الأمر بصيغة الذكور فإنه يشمل في الوقت نفسه الإناث أيضاً. وأنا أعتقد أن هذه ليست قضية لغة ولكنها قضية شرع. فالشرع فعل ذلك، وربما كان هذا أمراً يتعلق بالاقتصاد في إبلاغ الأحكام، فبدل أن يقول ” وأقيموا الصلاة وأقمن الصلاة ” يقول ” أقيموا ” وافهموا يا أيُّها المؤمنون أن الجميع مكلفون بهذا الأمر. وهناك صيغ كثيرة يأتي الأمر كما ذكرتم من الآيات والأحاديث بالفعل، يعني إذا ذكر اللفظ مذكراً أو موجهاً إلى الرجال فإنه يشمل النساء في الأحكام. وأنا أقول هذه قضية شرع. وهذا الشرع من حقه أن يخصِّص اللغة ويضع من القواعد ما يؤدي إلى إفهام الأحكام للمخاطبين
لكن اللغة العربية فى ذاتها لديها النوعان، لديها خطاب للذكور وآخر للإناث، فاسم الإشارة ” هذا ” غير ” هذه “. والاسم الموصول ” اللذان ” غير ” اللتان “. وجمع المذكر السالم غير جمع المؤنث السالم. يعني في الوضع العام للغة في أصلها وأساسها لابد من مراعاة ذلك لأن هذه أنواع بشرية لا يمكن تجاهلها في الخطاب، وينبغي عليَّ وأنا أتحدث باللغة العربية أن أستعمل الصيغ المناسبة لمن أريد إبلاغ كلامي إليه، فإذا أردت أنثى فلأحدثها بلفظ الأنثى، وهذا ليس تقليلاً من شأنها، وإذا أردت الذكر أحدثه بألفاظ الذكور، وهذا ليس تقليلاً من شأنه. لكن إذا وصلنا للأحكام الشرعية قد يكون الأمر فيه نوع من الاقتصاد فبدل أن يذكر الأمر مرتين، يذكر مرة واحدة. وتكون هذه الطريقة عملية وإجرائية.
لقد قال ابن حزم -وكل الفقهاء يوافقونه على ذلك- إن الخطاب للذكور في القرآن الكريم موجه للإناث أيضاً، وأنا أثني ثناء كاملاً على استثمار هذه القاعدة فيما يتعلق بالأحكام عندما تحدثنا عن آيات سورة الشورى. فكل الأحكام فيها موجهة للرجال والنساء، ثم نأتي إلى الشورى فيحظر على النساء ليس فقط الإدلاء بالأصوات أو الترشيح بل يحظر عليهن ما هو أقل من ذلك فيما يتعلق بحريتهن الشخصية أو تعاملهن في المجتمع العربي المسلم. وأتمنى أن تكون هذه المسألة موضوع حوار، وهي تحتاج إلى مزيد من التأمل.
د. حسن عيسى
أبدأ بتحية كلية الاقتصاد وبرنامج حوار الحضارات على تنظيم هذه الندوة الهامة التى تحمل هماً يخصنا جميعاً كمواطنين عرب نتحدث العربية. وقد أشار د. كمال المنوفي في كلمته إلى تهاوننا مع اللغة العربية وهوانها علينا وعدم تقديرنا لها. وأود أن أشير إلى مقال قرأته في مجلة العربي الكويتية ذكر فيه أن اللغة العربية في الهند – التي لا تتحدث العربية – محل اهتمام شديد، وهناك حوالي خمسين قسماً لدراسة اللغة العربية في جامعات الهند، وبالذات في الجامعة العثمانية في حيدر آباد. فالاهتمام باللغة العربية هناك يفوق اهتمامنا نحن الذين تعنينا هذه اللغة، وهي مسألة تدعو للخجل الشديد.
أنتقل إلى محاضرة الدكتور هيثم الخياط، وأنا لست من أهل الاختصاص ولكني أسمع أنه إذا ورد ذكر رجال ونساء في جملة ما، فإنه يغلب عليها أن تُطْبَعَ بالطابع الذكوري، وحينما كنا طلاباً قيل لنا إن جمع الذكور يغلب جمع الإناث، فهل هذه المسألة تعني أن هناك تفضيلاً للذكور أم أن الجميع مخاطبون بخطاب واحد. وهذا يستدعي أن أعلق على كلام الدكتور هيثم من أننا إزاء لغة أنثوية أو لغة تميل للإناث فتخاطبهم خطاباً خاصاً، لكننا إزاء مجتمع ذكوري يفضل الذكور ويجعل لهم اليد العليا في كل شؤون المجتمع وقوانينه ومؤسساته، فهذا تناقض بيِّن يجعلنا أمام تناقض في الهوية، فاللغة تميل لتفضيل الإناث بينما المجتمع وتركيبه يميل إلى الذكورية، وأرجو أن يكون هذا محل نقاش.
د. فيصل الحفيان
استمعت إلى ما قاله الدكتور هيثم الخياط، وهو يقلب في الحقيقة بمحاضرته هذه مقاييس كثيرة، يقلب كل ما قاله النحاة، ويقرر حقيقة جديدة لا أستطيع أنا أن أحسم برأي فيها. لكن أخشى أن يكون الأمر من قبيل أننا نضع أنفسنا دائماً في موقع التهمة، وأننا دائماً مضطرون للدفاع عن ثوابتنا. وأعتقد أن المشكلة ليست في كون اللغة العربية ذكورية أم أنثوية، وإذا كانت اللغة تحتوي على صيغة للذكور وأخرى للإناث فهذا يعد نوعاً من الثراء اللغوي. فنحن لسنا مضطرين لأن نقول إن كل الضمائر وأدوات الإشارة وما يتصل بذلك كلها أنثوية أو أصلها أنثوي. النحويون يقولون في آية ” تلك الرسل ” إن المقصود هنا تلك جماعة الرسل، والجماعة كلمة مؤنثة فيها تاء التأنيث لذلك جاء الضمير تلك.
ولدي اعتراض بسيط على الاستشهاد بالحديثين اللذين ذكرهما الدكتور هيثم الخياط: حديث عائشة والحديث الآخر. فعندما يسأل النبي صلى الله عليه وسلم ” أي الناس أحب إليك “، فإن كلمة الناس ليست ضميراً وهى تشمل الجميع إلا إذا أردنا أن نخرج النساء من الناس فتلك قضية أخرى.
أ. حسن خليل
أتساءل فيما يتعلق بالتذكير والتأنيث عن حديث الرسول صلى لله عليه وسلم الذى يقول فيه: “سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه، ورجل قلبه معلَّقٌ بالمساجد، وشابٌ نشأ في طاعة الله، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله… ” فالحديث كله بصيغة المذكر، فما هي القرينة التي تجعلني أقول بدلاً من “رجلين تحابا”، “امرأتين تحابتا”، وبدلا من “شاب نشأ في طاعة الله” أقول “امرأة نشأت في طاعة الله”. فهل هناك مانع أن أُدخل النساء في مثل هذا الحديث رغم عدم وجود قرينة ؟
د. هيثم الخياط (يرد)
أشكر تحيتكم لأخيكم السوري رغم أنني في مصر منذ واحد وعشرين عاما، حتى إنني عندما جدَّدتُ رخصة قيادة السيارة مؤخراً كتب عليها ” مصري ” فكأنني منحت الجنسية المصرية. وأعجبتني دبلوماسية الأخ الحلبي الذى قال إنه عندما يستمع للرئيس عبد الناصر يظن أن سيبويه كان مخطئاً. وهذا طبعاً نوع من الدبلوماسية الجميلة.
أنا لم أقل إن اللغة العربية تنفي الذكور، وإنما قلت إنه لا يوجد في اللغة العربية صيغة للذكور وحدهم. طبعاً توجد بعض الضمائر وبعض الاستعمالات لكنها ليست للذكور وحدهم. والحديث النبوي الذي ذكره الأستاذ حسن خليل يوضح هذا الأمر توضيحاً كاملاً. فاللغة العربية تستعمل كلمة الرجل كما تستعملها اللغات الأخرى جميعاً. بمعنى man بالانجليزية أو homme بالفرنسية أو uomo بالإيطالية أو mann بالألمانية، وكلها بمعنى إنسان وليس الذكر فحسب. الحركاتُ الأنثوية feministهي التي تحاول ان تركز على ذلك، وكل شئ اسمه man تضع بدلا عنه human، وبدلاً من mankind يقولون humankind، إلا كلمة man-made disaster فتركوها للرجال فقط حتى يكونوا مسؤولين عن الكوارث وحدهم!
فكلمة الرجل في اللغة العربية معناها الإنسان، أي الذكر والأنثى معاً. وعندما يقول الله سبحانه في القرآن الكريم )من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه( ليس معناها: من المؤمنين ذكور صدقوا ما عاهدوا الله عليه. وكذلك في قوله تعالى: )يسبِّح له فيها بالغدو والآصال رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله( ليس معناها: ذكورٌ لا تلهيهم تجارة ولا بيع. وكذلك في حديث السبعة الذين يظلهم الله بظله. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح “ألحقوا الفرائض بأصحابها فما فَضَلَ فلأولَى رجل ذَكَر”، فلماذا قال “رجل ذكر”؟ لأن كلمة الرجل تستعمل للذكر والأنثى معاً، فأضاف النبي كلمة ذكر هنا لكي يتضح المعنى.
وبالمناسبة فإن من القضايا التي يساء إليها كثيرا قضية القوامة، فالقوامة معناها أن يقوم الإنسان بشؤون الآخر ويرعاها ويقضيها. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم ” لا تزال طائفة من أمتي قوَّامة على أمر الله “، وهذا لا يعني أنها مترئِّسة على أمر الله، وإنما هي تخدم أمر الله وتنهض به. فالرجال قوَّامون على النساء معناها الرجال يقومون بشؤون النساء، ولذلك لم يقل الأزواج قوامون على الزوجات، بل قال الرجال قوامون، أي إن كل الرجال في الأسرة والمجتمع مسؤولون عن النساء. وهذا ما كنا نلاحظه أيام الثورة السورية والعدوان الفرنسي على دمشق إذ كان من واجب كل رجل من رجالات الحيِّ أن يتفقد نساء الحي جميعاً قبل أن يتفقَّد أهله.
بالنسبة لتعقيب الأخ الدكتور عبد الحميد مدكور الذى ناقش فيه قضية حساسة جداً أقول إنني لا أنكر على الإطلاق وجود بعض الصيغ التى تدل على الرجال وحدهم، لكنني قلت بالتحديد إنه عندما نتحدث عن صيغة المذكرين نكون في الحقيقة بازاء الصيغة المشتركة. ربما توجد استثناءات قليلة تعود إلى توخي الجمال والدقة. فاللغة العربية لغة جميلة ودقيقة وأتفق مع الدكتور مدكور فيما ذكره عن الاقتصاد في الأحكام، لكن حتى في اللغة المستعملة حالياً نقول “مَنْ جَدَّ وَجَد”، و”ممنوعٌ الكلام مع السائق” فهذا مفهوم أنه يشمل الرجل والمرأة معاً. وهذه صيغة مشتركة وليست صيغة مذكَّرين. وهناك صيغة للإناث وحدهنَّ قولاً واحداً. فالتفريق الذي أردته يركز على أن صيغة المؤنث لا تستعمل للذكور والإناث معاً إلا في الأحكام الشرعية كقوله تعالى: )إن الذين يرمون الـمُحْصَنَات الغافلات المؤمنات لُعنوا في الدنيا والآخرة(، أو قوله سبحانه: )والذين يرمون الـمُحْصَنَات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم( فحكم القَذْف يطبَّق على الرجال والنساء قاذفين ومقذوفين. أما صيغة الذكور فمشتركة وتستعمل للجنسين معاً في الأحكام وغيرها (حيث نستعملها أيضاً في لغة الخطاب العادي). وشكراً لكم.
د. نادية مصطفى
شكراً للمحاضر ولكم جميعاً، وأعتقد أن البداية كانت جيدة ومتميزة وتوضح أن الأمر في تفاصيله اللغوية يحتاج لحوار، كما أن الموضوع برمته سيخدم أغراض الحوار بإذن الله.



