خطابات

في وداع الشيخ الغزالي

أيها الإخوة الأبرار،

أحدِّثكم عن جانب من جوانب الفقيد الحبيب قد لا يعرفه الكثيرون، ألا وهو مساهماته المباركة في مناشط بعض المنظمات الدولية التي تُعنَى باتخاذ الدين مدخلاً إلى تحسين صحة الإنسان، كما تُعنَى بالبحث عن رأي الدين في كثير مما استجد من ممارسات للطب والعلم تتجلَّى بموقف أو سلوك. وأخصُّ منظمتين أمثِّلهما هما منظمة الصحة العالمية والمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية. وقد كان لشيخنا تغمَّده الله برحمته ورضوانه – كعادته – حضور مشهود في ندوات هاتين المنظمتين ومؤتمراتهما التي تبحث أمثال هذه الأمور. وأشهد لقد كان الأطباء في هذه المؤتمرات يجنحون مجنح التشدُّد، وكان شيخنا ومن تقيّل ظلاله من الفقهاء ينحو منحى السماحة والتيسير، إذ ليس العالم من حمل الناس على ورعه، ولكن العالم من أفتى الناس بما يسعهم في دينهم. ورحم الله التابعي الجليل سفيان الثوري: “إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد”. اللهم إلا إذا كان الحق أبلج، فعند ذلك يقف شيخنا وقفة صارمة، مجادلاً عن موقفه بالحكمة والموعظة الحسنة. وآخر مثال على ذلك موقفه من التدخين.. آفة العصر التي أجمع الأطباء على ضررها المتيقّن وأذاها المميت، بل إن صانعي السجائر يكتبون ذلك على علبها تحذيراً للناس، فما تردَّد شيخنا رحمه الله في تنزيل التدخين منزلة الضرر والضرار اللذين حرَّمهما سيدنا رسول الله صلوات الله عليه، وما تردَّد في الاستشهاد بقوله سبحانه: ]ولا تقتلوا أنفسكم ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وما تردَّد في عدّهما من الإثم وهو كل ما فيه ضرر للفرد والمجتمع، وقد قال ربنا عز وجل: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم.

****

وجانب آخر يعتزّ به المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في هذا الإقليم ويأوي منه إلى ركن شديد، ألا وهو حبّه للغة القرآن وحديثه بقلب جريح عمّا وصلت إليه، وحرصه على أن تعود كما كانت لغة العلم والمعرفة، وذلك من ثاقب فكره رحمه الله وبُعد نظره، فلن تقوم لهذه الأمة قائمة، ولن تمتلك ناصية العلم ما لم تتمثَّل علم العالَم بلغتها؛ وتدرّسه بلغتها، وتنشره بين أبنائها بلغتها؛ وإلا بقيت عالة على العالم، متردِّية في حمأة نقل العلم، وشتان بين ناقل ومبدع وبين اليد السفلى واليد العليا.

وبعد، فقد كان شيخنا تغمَّده الله برحمته ورضوانه من أعرف الناس بفقه الأولويات، وكان يأبى تأخير الأهم وتقديم المهم، وكان يؤرّقه اشتغال الناس بالتوافه وغفلتهم عن عظائم الأمور، ولعل من أجمل ما تحدث عنه في هذا الصدد تقديمه الأخلاق على العبادات، انطلاقاً من حديث سيدنا رسول الله : “آية المنافق ثلاث.. وإن صام وصلى وزعم أنه مؤمن.. إذا حدَّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان” فجعل صلوات الله عليه مؤدي العبادات في زمرة المنافقين، ما لم يَصْدُقْ إذا حدَّث، ويَفِ إذا وعد، ويؤتمن إذا اؤتمن. وقد كنت أرجوه – تغمَّده الله برحمته ورضوانه – أن يؤلف كتاباً في هذا المعنى فكان يرجئه حتى يفرغ من تفسيره الموضوعي. ولعلنا نجد في بعض ما ترك ما يفي هذا الموضوع حقه إن شاء الله.

نسأل الله لهذا الراحل الكريم الذي سأل الله الشهادة بصدق، أن يجعل له لسان صدق في الآخرين، ويكرمه بقدم صدق، ويحشره مع المتقين في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

وإنـَّا لله وإنـَّا إليه راجعون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى