حكم أبي الحسن العامري

اسْتِفَادَةُ العلم عِمَارَةٌ للقلبِ؛
ومُجَالَسَةُ العلماء والحكماء تَجلِيَةٌ للأبصار؛
وبُدُوُّ حال العقلاء قطيعةُ أصناف الجهلاء؛
وأعْوَنُ الأشياء على تَذْكِيَةِ العقل الخضوعُ للتَّعَلُّم.
إن العلوم في ذواتها كثيرة، وهي مع كثرتها متفاضلة.
*
مَنْ رَضِيَ لنفسه أن يكون في بعض شِيَمِه حراً، وفي بعضها عبداً؛ فليس هو بذي نفس أبِيَّة.
ومَنْ حاد عن الأفعال الجيِّدة لفرط الشُّغْل تَعْجُّلاً إلى الراحة؛ فليس هو بذي همة عليَّة.
ورغبة الملوك في الأدب تحيى الأدب، وعند استقامة طرائقهم يقوى الذَّبُّ، وعند اجتبائهم أهل الفضل تظهر الفضيلة.
*
إنَّ الحقَّ مُتَاحٌ لمن أراده وأحَبَّ أن يَنْطِقَ به.
لكنْ للنفوس أوْطارٌ تُؤْثـَر على طلب الأجر.
ولابُدَّ للفهم من قَادح، وللمنطق من واع.
وإذا لم تُلْقَح العقول بالتذكرة لم يَحْسُن الصَّواب منها.
وعلى السبيل إلى الله أعلامٌ ظاهرة، وشواهدُ واضحة.
ولن يَذْهَبَ عن الحق من سَعى بصدق نية في طلبه.
*
ولن يفرح العاقل بالنعمة التي لا يستحقها، والمنزلة التي ينالها باسم غيره، والفَلْجِ الذي يكون من جور الحكم، والظَّفَر الذي يتفق من ارتكاب الخِطار.
ولن يبلغ ألف رجل من إصلاح رجل واحد بحسن القول دون حسن العمل ما يبلغ رجل واحد في إصلاح ألف رجل في تصديق القول بالفعل.
وكما أن الأعمى لا يمكنه أن يهتدي، والفقير لا يمكنه أن يستغني؛ كذا أيضاً لا يستصلح أحد غيره إلا بعد إصلاحٍ منه لنفسه.
*
الكلامُ الصَّحيحُ منه تحقيقه، ومعه تصديقُه؛ والكذوب بذات فمه يفتضح.
وأحَقُّ الناسِ بالرحمة العاقلُ إذا تسلَّط عليه الجاهل.
وشِدَّةُ الفحصِ براءةٌ من الخديعة.
والجهلُ مع العِفَّة خير من الحكمة مع الفواحش.
ومخافةُ العاقل لذم العلماء إياه تكون أشدَّ من مخافته لعقوبة السلطان.
وموعظةٌ وإن قلت فهي أدب عظيم.
*
بالبحث تُستخرَجُ دفائنُ العلوم.
ولولا الخطأُ لما أشْرَقَ نورُ الصواب.
ولا فرقَ بين إنسانٍ يقلِّد وبهيمة تَنْقاد.
وفساد الدين في ثلاثة: زلَّة العلماء، وميل الحكماء، وتأويل الرؤساء.
ومَنْ لم يكن معه عقل مرصوص، لم ينتفع بالحديث المقصوص.
*
الـمُلْكُ بالدينِ يبقى، والدِّينُ بالـمُلْكِ يقوى.
ومَوارِدُ الأمورِ تشتبه، وفي مصادرها يتضح اليقين.
وإذا ضَعُفَ السلطان قَوِيَ الشيطان.
ولا يَسْلَمُ على الناس أحد، ولم يجتمعوا في الرضا على بشر.
وطهارةُ النفس تُعَدُّ غبطةً دائمة.
وما أبْيَنَ وجوهَ الخير والشر في مرآة العقل، إذا لم يُصْدِئْها الهوى.
*
إنَّ الحقَّ لا ينقلبُ باطلاً لاختلاف الناس فيه، ولا الباطلُ يصير حقَّا لاتفاق الناس عليه.
وليس في وُسْعِ الحق قهرُ الأنفس على الإقرار به، وتسخيرها للاعتـراف بصدقه، لكنه شيء محقق بنور العقل بعد الرويَّة والبحث؛ فيظهر به الـمُحق، ويمتاز به عن المبطل.
وسلامةُ الإنسانِ عن الخطأ رأساً ليس بمطموع فيه، ولكن الطمع في أن يكثر صوابُه.
والقُنْيةُ العقلية متى كانت نفيسةً كثر الحُسَّاد عليها، وانبعثوا لإيقاع التلبيس فيها. وبحسب ذلك تختلط الأمور، وتصير عرضةً للاختلاف:
والاختلاف داعية إلى المماراة؛
والمماراة فاتحة للتَّعادي؛
والتَّعادي سُلَّمٌ إلى العصبية،
والعصبية هي الداء العضال؛ التي تَسْتَخِفُّ الأحلامَ الراجحة، وتستأصل النِّعمَ الْمُتأَثـِّلة.
*
العقولُ في أنفسها متفاضلة؛ وللأفهام في ذواتها مراتب.
ومن المعقولات ما يكون اسْتِثْـبَاتُه قريباً، ومنها ما يكون عن فكر الحق به نائياً.
وبين الناس وسائط كثيرة.
وليس على ناظم الكلام تقريبُه من جياد الأفهام وعليلها، بل عليه أن يُخْلِصَ إلى المعاني قصدَها بأسهل وجوه اللفظ؛ ثم مَن فَهِمه كان ذلك فضيلةً له، ومَن قصَّر عنه كان ذلك نقيصةً فيه.
وكلُّ من تدبَّر كلاماً صَنَعَه غيره، إما في العلوم الـمِلِّيَّة أو في العلوم الحِكْميَّة، لم يسلم من الشك في بعض معانيه.
وفحولةُ الشعراء لم يقولوا ما قالوه من أَشعارهم على شريطة أن يفهم عنهم كلُّ سامع، بل قالوه على شاكلة ما كانوا أوتوه من الفصاحة.
*
أعْونٌ الأشياء على تذكية العقل الخضوعُ للتعلم؛ فإذا استبدَّ الإنسانُ برأيه عَمِيَتْ عليه الـمَرَاشد.
وللحكمة زمانُ إظهار وزمانُ كتمان، فلا يصلح زمان الكتمان لإظهارها، ولا زمان الإظهار لكتمانها. وهي تُنْقِص أهلها في غير حينها، كما تَزيدُهم في حينها، وتضعهم عند غير المستحقين لها، كما ترفعهم عند المستحقين لها.
ومتى أعانت الفضيلةُ صاحبَها فالحكمة تُكسِبه الخُلُقَ المحمود، وحسنَ المعيشة، وإكرامَ النفس.
ومتى لحقت الرذيلة صاحبَها فالحكمة تَصِير له قوةً على المعصية، وفساداً للمعيشة، ووبالاً في العاقبة.



