محاضرات

حقوق الطفل في الإسلام

يفتح الطفل الفلسطينيُّ عينَيْه كلَّ يوم، لِيُبصِرَ بيتَه أو بيت جاره وقد تحوّل إلى أنقاض، أو يُبصِرَ جندياً مدجّجاً بالسلاح يوجِّه سلاحه إليه، أو يُبصِرَ دبَّابةً تتحرّك في اتّجاهه بقَضِّها وقضيضها وجنازيرها المرعبة… فينظر إلى أنقاض منزله بعيون مفعمة بمعان لا حَصْرَ لها ولكن التحدّي يؤلّف قاسمَها المشترك، وينظر إلى الجندي الـمُسْتَرْجِلِ عليه نظرةً كلُّها استخفافٌ وازدراء، وينظر إلى الدبّابة التي تهاجمه كما لو كانت دبابةً دُمْيَة، كان يُفْتَرَض أن يلهو بها في هذه السنّ الغضَّة…

هذه بعض مظاهر الأمن الإنساني التي يعيش أطفالنا في ظلالها.

وهذه هي حقوق الطفل التي يتشدّق بها الإنسان المتحضّر، كما تكفُلُها (( الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط )) !

وقُلْ مثل ذلك أو قريباً منه في أطفال العراق، الذين تشنِّفُ آذانهم كلّ يوم تصاريح التهديدِ بالويل والثبور وعظائم الأمور، والوعيدِ بتدميرهم الجماعي بأسلحة الدمار الشامل لمصادرة ما يُخفونه في غُرَف نومهم من أسلحة الدمار الشامل ! دَعْ عنك حرمانهم من الغذاء والدواء والتعليم وكل ما يستمتع به الطفل في بُلدان المتحضِّرين.

وقُلْ مثل ذلك في أطفال الصومال والسودان وغيرهما من بلدان هذه الأمة التي كأنّما كُتِب عليها أن تعيش محرومة من الأمن.

الأمّة التي دعا لها أبوها إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله: (ربِّ اجعل هذا بلداً آمناً).

الأمّة التي مَنَّ الله على أجدادها بقوله: (أَوَلَمْ نمكِّن لهم حَرَماً آمناً) وقوله: (أطعمهم من جوع وآمنهم من خَوْف).

الأمّة التي قال رسولها : (( من أصبح منكم مُعَافىً في بدنه، آمناً في سِرْبه، عنده قوتُ يومه، فكأنما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها )).

والتي كان الأمن الإنساني يمثِّل أُولى الأولويات في نظر زعيمها وقائدها صلوات الله وسلامه عليه، يومَ أقام المجتمع الأوّل في المدينة المنوّرة، فأحَلَّ السِّلْم بين الأوس والخزرج، وآخى بين المهاجرين والأنصار، واعترف بالآخَر الذي في المدينة، في صحيفته المشهورة التي تؤلِّف أوَّلَ وثيقة دستورية في التاريخ: (( … وأنّ بني عوف ]أي اليهود[ أمةٌ مع المؤمنين، لليهود دينُهُم وللمسلمين دينهُم.. وأن مَنْ تَبـِعنا من يهود فإن له النَّصْر والإسوة ]أي المساواة الكاملة مع المسلمين[.. وأن مَنْ قَعَد بالمدينة أمِنٌ ومَنْ خَرَجَ آمِن )) !

*

حقُّ الأمن هذا هو أحد أبرز حقوق الإنسان التي تَبَلْوَرَتْ على شكل شِرْعة عالمية في غضون القرون الثلاثة الماضية، والتي شُرّعَتْ أوَّلَ مرة وطُبِّقَتْ قبل أربعة عشر قرناً من يومنا هذا، ] أي قبل ألف ومئة عام من ميلاد الشِرْعة العالمية[، في بلاد الإسلام.

حقُّ الحرية يأتي في مقدِّمة هذه الحقوق على الإطلاق، في نظر الإسلام ! بُرهان ذلك قول الله عزّ وجل: (والفِتنةُ أشدُّ من القتل)، (والفِتنةُ أكبَرُ من القتل). فإذا كانت الفتنة التي هي (( سَلْب الحرية )) أشدَّ من القتل الذي هو (( سَلْبُ الحياة ))، فمعنى ذلك أن الحرية هي أهمُّ من الحياة ذاتها. وقد ورد توكيد ذلك في آيات كثيرة:

1.في جانب الاعتقاد:

(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)

(لا إكراهَ في الدين)

(أفأنتَ تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)

(ليس عليك هداهم)

(لستَ عليهم بمُصَيْطر)

(وما أنت عليهم بجبَّار)

 

2.في جانب العمل:

(اعملوا ما شئتم)

(اعملوا على مكانتكم)

*

الحقُّ الذي يُضارع حقّ الحرية هو حقُّ الحياة:

(من قَتَلَ نفساً – بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً؛ ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً).

والإحياءُ والقَتْلُ غير مقصورَيْن على الإحياء المادي والقتل المادي، وإنما يشملان الإحياء المعنويَّ والقتل المعنويَّ كذلك.

وقد يكون مباحاً لي هنا أن أفتح قوسَيْن لأذكر أن حقوق الإنسان في الإسلام تمثِّل مزيجاً عجيباً يمتزج فيه الحق بالواجب امتزاجاً لا فكاك منه. فكلُّ حقٍّ من هذه الحقوق، يتطلَّب من الإنسان أن يسعى إلى الحصول عليه وإلى الحفاظ عليه في وقتٍ معاً. فالتخلّي عن الحق تَخَلٍّ عن جزء من إنسانية الإنسان !

 

ألم تَرَ كيف تحدَّث الله عزّ وجل عن أولئك الذين تخلّوا عن حق الحرية؟

(إن الذين تَوَفَّاهم الملائكة ظالمي أنفُسهم، قالوا فيمَ كنتُمْ؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض: قالوا: ألم تكُنْ أرضُ الله واسعة فتهاجروا فيها؟).. إلى قوله: (ومَنْ يهاجر في سبيل الله يَجِدْ في الأرض مُرَاغَماً كثيراً وسَعَة).

وقُلْ مثل ذلك في أولئك الذين يتخلَّون عن حق الحياة:

(ولا تقتلوا أنفُسكُمْ ! إن الله كان بكم رحيماً)

(ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة)

*

الحقُّ الرابع – بعد حق الحرية وحق الحياة وحق الأمن – نجد الإشارةَ إليه في حديث النبي ، في ذلك النصِّ الفريد الذي لم يتوصَّل العالم إليه بعد، وهو حقُّ الصحَّة:

(( إن لجسدك عليك حقاً ))

(( إن لنفسك عليك حقاً ))

الجسد الذي من حقه على صاحبه أن يطعمه إذا جاع، ويُريحه إذا تعب، وينظِّفه إذا اتَّسخ، ويحميَه مما يؤذيه، ويقيَه من الوقوع في براثن المرض، ويداويَه إذا مرض، ولا يكلِّفه ما لا يطيق.

من أجل ذلك جعل الإسلام الصحة في الدرجة التي تلي درجة الإيمان، فقال النبي : (( ما أوتيَ أحدٌ بعد اليقين خيراً من المعافاة )).

وفي مقابل ذلك كانت الصحة مسؤولية كبرى أمام الله عزّ وجلّ. فالنبي  يقول: (( إن أوَّلَ ما يُحاسَب به العبد يوم القيامة أن يُقال له: ألَمْ أُصِحَّ لك جسمك؟ )).

والإسلام يلفت نظر الإنسان إلى هذه النعمة، وينبِّهه إلى أن كثيراً من الناس يخسرون الخسران المبين لقلّة اكتراثهم بها، أو قلة الاستفادة المثلى منها. فيقول النبي : (( نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحةُ والفراغ )). هذا مع قول الله عزّ وجل: (ومَنْ يُبَدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب).

ومن أجل ذلك نرى الإسلام يحضُّ الإنسان على اغتنـام هذه النعمة والتمتُّع بها فيقول رسول الله : (( اغتَنِمْ خمساً قبل خمس: حياتكَ قبلَ موتك، وصحَّتك قبل سَقَمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك )).

*

الحقُّ الخامسُ من حقوق الإنسان حقُّ العلم، وهو كسائر حقوق الإنسان في الإسلام: حقٌّ وواجب في الوقت نفسه. وهو أوَّلُ الحقوق التي نَزَلَ بها الوحي:

(اقرأ؛ وربُّك الأكرم، الذي علَّم بالقَلَم، علَّم الإنسان ما لم يَعْلَمْ).

وقد جعل النبي  طَلَبَ هذا العلم فريضةً على كل مسلم: ذكراً كان أم أنثى، طفلاً كان أم بالغاً. وانظُرْ إلى قوله صلوات الله وسلامه عليه: (( طلَبُ العلم )) لتعرف لماذا أجهد المسلمون أنفسهم في تطلُّبه، ولماذا بحثوا عنه في كلِّ مكان، ولم يجدوا حَرَجاً في أخذه من أيِّ وعاءٍ خَرَج:

(قُلْ: هل عندكم من علمٍ فتُخرحوه لنا؟).

وقد كان عَجَباً من العَجَب، لم يَشْهَدْهُ التاريخ مِنْ قَبْلُ ولا مِنْ بَعْد، أن أمةً فاتحة، تُملي شروط الصلح على المغلوبين، فتطلب إليهم أن يقدِّموا لها كُتُبَ العلم غرامةً حربية ! هذا ما فعله المسلمون في صلحهم مع الروم، ومِنْ قَبْلِ ذلك طلب رسول الله  من أسرى (( بدرٍ )) من المشركين، أن يَفْتَدوا أنفسهم بتعليم عدد من أبناء المسلمين !

*

حقٌّ الحرية، وحقُّ الحياة، وحقُّ الأمن، وحقُّ الصحة، وحقُّ العلم، هي الحقوق الخمسة الأولى التي نصَّ الإسلام على أنها حقوق للإنسان، أيِّ إنسان، أيّاً ما كان جنسُه أو لونُه أو حَسَبُه أو دينُه أو سنُّه.

وقد حَرَصَ الإسلام على أن يبيِّن أنها حقوق للأطفال مثلما هي حقوق للكبار، وعلى أن يَضَعَ الضَّوَامِنَ التي تضمن قيام المجتمع الإسلامي بتطبيقها. وفي ما يلي أمثلة، مجرَّدُ أمثلة:

فللطفل على أبويه مثلاً حقُّ تزويده بالتغذية الصحية، وهي تتمثَّلُ في الإرضاع من الثدي بالدرجة الأولى امتثالاً لقول الله عزّ وجل: (والوالداتُ يُرضعنَ أولادهنَّ حَوْلَيْن كاملَيْن لِمَنْ أراد أن يُتِمَّ الرَّضاعة) وقوله سبحانه: (وفِصَالُه ]أي فطامه[ في عامَيْن).

وله عليهما كذلك حقُّ تزويده بالمناعة الكافية اللازمة لوقايته من الأمراض الـمُعْدِية، وذلك بتطعيمه باللقاحات المناسبة، وذلك داخلٌ في الوصية العامَّة بالأولاد ورعايتهم بكل ما يصلح شأنهم، وعدم التفريط في حقهم، امتثالاً لقول النبي : (( وإن لولدك عليك حقاً… فآتِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه )). وقوله صلوات الله وسلامه عليه: (( الرجلُ راعٍ في بيته ومسؤولٌ عن رعيَّته، والمرأةُ راعيةٌ في بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم )). والتفريط في حق الولد تفريطاً قد يُفقده حياتَه أمرٌ خطير، يقول عنه ربُّنا عزّ وجل: (قد خَسِرَ الذين قتلوا أولادهم سَفَهاً بغير علم)  ويقول عنه نبيُّنا : (( كفي بالمرء إثماً أن يُضَيِّعَ من يقوت  )). وقد أشَرْنـا مِنْ قَبْلُ إلى أن القتل في أمثـال هذه الآيات لا يقتصر على القتل المادِّي وإنّما يشمل القتل المعنويَّ كذلك كحرمان الولد من ضَوَامِنِ الحياة الكريمة. وقد حرَّم الإسلام تعريض الوَلَد إلى أي ضرر. نجد نَصَّ ذلك في قوله عزّ وجل: (لا تُضَارَّ والدةٌ بولدها، ولا مولودٌ له بولده)، وقول النبي : (( إن الله سائلٌ كلَّ راعٍ عما استرعاه: حَفِظَ أم ضيَّع، حتى يسألَ الرجلَ عن أهل بيته )). بل (( إن الله وَضَع عن المسافر شطر الصلاة، وعن الحامل والمرضع الصوم )) وما ذلك إلا ليحمي جنين الحامل أو رضيعَ المرضع من أيّ تقليص قد يصيب تغذيته.

ومن الوصايا النفيسة للنبي  ووصاياه كلُّها نفيسةٌ مباركة:

  • (( حقُّ الولد على الوالد أن يعلِّمه الكتاب ]أي الكتابة والقراءة[ والرَّمْيَ والسِّباحة، وأن يورِّثه طيِّباً )).
  • (( حقُّ الولد على والده أن يُحْسِن اسمَه، ويزوِّجه إذا أدرك، ويعلِّمه الكتاب )).

ولا يخفى أن لفظ الوالد هنا يعني الوالدَيْن، وأن لفظ الولد يشمل الذكر والأنثى من الأولاد.

  • (( سوُّوا بين أولادكم في العَطِيَّة؛ ولو كنتُ مفضِّلاً أحداً لفضَّلْتُ النساء )).
  • (( أحِبُّوا الصِّبيانَ وارحموهم )).
  • (( اللهم إني أُحَرِّج حقَّ الضعيفَيْن: اليتيم والمرأة )).
  • (( رفقاً بالقوارير ))]والقوارير هي ما نقول له اليوم: الكريستال، وانظُرْ إلى هذا التشبيه الراقي للنبي عليه الصلاة والسلام: تشبيه النساء والأطفال بالكريستال بنَفَاسَتِه وتعرّضه للكسر[.

وكان النبي  يحرص على أن يباشر بنفسه الاهتمام بالأطفال، وإبداء حبّه لهم، وتربية شخصيّتهم.

فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا رأى النساء والصبيان مُقْبـِلين قام إليه وهَشَّ لهم وقال: (( والله إنكم لَمِنْ أحبِّ الناس إلىّ )).

و(( كانت الأَمَةُ من إماء المدينة ]وهي الفتاة الصغيرة[ تأخذ بيد النبي  فتمضي به حيث شاءت، حتى يقضي حاجتها )) بل (( كان لا يَنْزِع يَدَهُ من يدها حتى تكون هي التي تنزع)) !

وكان كثيراً ما يقول في حديثه: (( يا بُنَيّ ! )).. (( يا غُلام !)).. (( علِّموا أولادكم ! ))..

ومن ذلك قوله لابن عباس: (( يا غلام ! سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مِمّا يَليك ! ))

وقوله: (( يا غلام ! إني أعلِّمك كلمات: اِحْفَظِ الله يَحْفَظْكَ؛ اِحْفَظِ الله تَجِدْهُ تجاهك ! إذا سألت فاسأل الله ! وإذا استَعَنْتَ فاسْتَعِنْ بالله!  واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرُّوك بشيء لم يضرُّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ! )).

وقد كان للطفل – أيِّ طفل – حقُّ الرعاية على الدولة الإسلامية. كالذي ورد في (( طبقات)) ابن سعد: (( أن عمر رضي الله عنـه كان يَفْرِض للمَنْفوس ]أي المولود بمجرّد ولادته[ مئة درهم، فإذا تَرَعْرَعَ بَلَغَ به مئتي درهم، فإذا بَلَغ ]مرحلة البلوغ[ زادَه… وكان إذا أُتِيَ باللقيط فرض له مئة درهم، وفرض له رزقاً يأخذه وليُّه كلَّ شهر بما يُصلحه، ثم ينقله من سنة إلى سنة، وكان يوصي بهم خيراً ويجعل نفقتهم ورضاعهم من بيت المال ! )).

وهكذا نرى عناية الإسلام باللُّقَطاء، ونرى أن ممارسة الخلفاء الراشدين، وهم الذين أُمِرْنا أن نعضَّ على سنَّتهم بالنواجذ، تدلُّ دلالةً لا لَبْس فيها ولا غموض، على أن من واجب الدولة في نظر الإسلام أن تكفُلَ لهم رعايتَهم بأكثر مما تكفُلُ رعايةَ غيرهم من الأطفال. ثـُمَّ لا يُتْرَكُ هذا الطفل الذي لم يَجْنِ ذنباً، حائراً لا اسمَ له ولا انتماء، وإنّما يُنْمى إلى العائلة التي تكفُلُه وهذا ما يقال له ((الولاية )):

(ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ! فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم)

*

وبعد، فهذه مجرَّد رؤوس أقلام، سجَّلتُها لاعتقادي أنها سوف تقدِّم الحلول المُثلَى لكثير من المشكلات التي يعيشها أطفال هذا البحر المتوسط في عُدْوَتَيْه الشمالية والجنوبية، وهي مشكلات لم تجد لها حلاً في ظلِّ القِيَم التي تسود العالم الذي يُقال له (( العالم المتقدّم )) في هذا العصر.

(والله يقول الحقَّ وهو يهدي السبيل).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى