محاضرة بابا الفاتيكان: دهشة واستياء

تلقَّيتُ كما تَلَقَّى غيري من علماء المسلمين بدهشة واستياء بالغَيْن، ما ذكره البابا بِنْديق (بنديكت) السادس عشر، رأس الكنيسة الكاثوليكية، عن الإسلام ونبيه الكريم .
أما الدهشة، فلأن أوّل ما يُشترط في مَنْ يتولَّى مثل منصبه، ولاسيَّما إذا كان يقوم من قبل بتدريس اللاهوت في جامعة أوروبية، أن يكون قد دَرَسَ شيئاً من تاريخ الأديان، فلو فَعَل، إذَنْ لَعَلِمَ من تاريخ أسلافه في الكرسي البابوي، مَنْ هم الذين استباحوا الدم الحرام، بدءاً بدماء إخوانهم مسيحيّي المشرق، في الحروب التي أطلق عليها المسلمون (( حروبَ الفِرَنْجة )) مُبْرزين طابعها الاستعماري المقيت، ومنـزِّهين السيد المسيح، روحَ الله وكلمتَه، عن أن يذكروا أي صلة بين اسمه الكريم صلوات الله عليه، والدين النقيِّ الذي جاء به من عند الله، وبين هذه الحروب العدوانية المخزية، التي يُصرُّ أتباعه أن يسمّوها (( الحروب الصليبية )). وحريٌّ بمثل مَنْ له مثل هذا التاريخ (( المشرِّف )) أن يُواري سَوْأته بدل أن يُلقي التُّهَمَ جزافاً على الآخرين.
بل من الـمُفْتَـَرض في مَنْ يتولَّى مثل منصبه، أن يكون قد درس شيئاً عمَّا ورد في الكتب المقدّسة من توراة وإنجيل وقرآن. فلو فَعَل، إذَنْ لعَرَف في أيِّ هذه الكتب يأمر الربُّ نبيَّه بأن يدمِّر قريةً بشيوخها وشبابها، وذكورها وإناثها، وكبارها وصغارها، بل وحيوانها ونَبَاتها. ولَمَا قال عن آيةٍ من آخر ما نزل من القرآن، في أوج قوَّة المسلمين، إنها إحدى سُوَر المرحلة الأولى يوم كان محمد، صلى الله على محمد، مستضعفاً بزعمه لا حولَ له ولا قوّة. ولأجاب عن سؤال الإمبراطور (( المتضلِّع )) الذي يَنْقُلُ عنه لرجل لا يُدرَى مَنْ هو، عن الجديد الذي جاء به محمد، صلى الله على محمد، بأنه جاء بتبرئة مريم العذراء البَتُول، مما رَمَاها به الذين استحقوا غَضَبَ الله (بكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيما)؛ وبأنه أمَرَ المسلمين أن يقولوا (آمنّا بالله، وما أُنزل إلينا، وما أُنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أُوتيَ موسى وعيسى، وما أُوتيَ النبيُّون من ربِّهم: لا نفرِّق بين أحد منهم)؛ وبأنه لم يأذَنْ للمسلمين بالقتال إلا عندما يحلُّ بهم الظلم والاضطهاد: (أُذِنَ للّذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا)؛ أو عندما يبادرهم قومٌ بالعدوان: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتّقوا الله)، (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا)، (فإن انتَهَوْا، فلا عُدْوانَ إلا على الظالمين)؛ أو دفاعاً عن المستضعفين الذين يتعرَّضون إلى الظلم والاضطهاد والعدوان: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والوِلْدان الذين يقولون: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها).
بل لَعَلِمَ أن قواعد الخطاب الإسلامي تنطلق من قيمة من أهم القِيَم الإسلامية، ألا وهي الاعتـراف بالآخر، لا اعتـرافَ ازدراء واستعلاء كما توحي بذلك مزدَوِجَة (( اليونان والبرابرة )) أو (( الرومان والبرابرة )) أو (( العالم المتقـدِّم والعالم المتخلِّف ))، وإنما اعتـرافَ تمايـُز وتكافـؤ: (لكم دينُكم وليَ دين)… (( لليهود دينُهم وللمسلمين دينُهم )) ]كما جاء في دستور المدينة[. مع ما يستـتبعه هذا الاعتـراف بطبيعة الحال من الالتـزام بأدب الحوار كما نصّ عليه القرآن الكريم:
- (وقولوا قولاً سديداً)
- (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن)
- (ادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)
- (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)
- (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)
- ومع ما يستـتبعه هذا الاعتـراف بالآخر من البحث دائماً عن صعيد مشترك:
- (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم)
- (وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد)
- مع التـركيز على الجامع الأعظم بين المسلمين وبين الآخر:
- (الله ربُّنا وربُّكم .. الله يجمع بيننا)
ولذلك لا يفرض الإسلام أيَّ حَظْر على كلام الآخرين، ملفوظاً كان أم مكتوباً، ولا يُصـادر رأيـاً ولـو كـان كفراً. بل يقصُّ القرآن المجيد مـا قالـه الآخـرون بنصِّـه: (وقال الذين كفروا…)؛ (وقالوا…)؛ (وقال الذين أشركوا…)؛ (سيقول الذين أشركوا…)؛ (وقال الظالمون…)؛ (وأما الذين كفروا فيقولون…)؛ (ويقول الذين كفروا…)؛ ويطالبهم ببَسْط حجَّتهم: (قل هاتوا برهانكم)؛ (قل هل عندكم من علمٍ فتخرجوه لنا؟)؛ (إن عندكم من سلطان بهذا؟).
بل يُضفي القرآن الحكيم نوعاً من المرجعية على هذا الآخر كما في قوله تعالى: (فإن كنت في شك ممّا أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك).
ولَعَلِمَ أن الاعتـراف بالآخر يستـتبع كذلك الاعتـراف بالاختلاف. فالله عزّ وجل يبيِّن أنـه قـد خلق النـاس مختلفيـن، وأنهم سـوف يظلون مختلفيـن: (ولايزالون مختلفيـن)، وأنـه (لذلك) – أي للاختلاف – (خَلَقَهم). وما كان الله ليأذَنَ بقَمْع هذا الاختلاف وهو قد خلق الناس له. وقد حكم سبحانه بأنه: (لا إكراهَ في الدين)، وقال لنبيِّه : (لستَ عليهم بمُصَيْطر)؛ (ومـا أنت عليهم بجبَّار)؛ (ولو شاء ربُّك لآمن مَنْ في الأرض كلُّهم جميعاً)؛ (أفَأَنْتَ تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟)؛ (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة)، (ولو شاء ربُّك لجعل الناس أمة واحدة).
ولكان أوْلَى بمن يتحدَّث عن التمازُج بين العلم والإيمان وبين الدين والعقل، أن يُبَرْهن على كلامه بنصوص من العهد القديم أو العهد الجديد، من مثل قوله تعالى في القرآن الكريم:
- (أَوَلَمْ ينظروا في ملكوت السماوات والأرض)
- (أفَلَمْ ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها)
- (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت
- وإلى السماء كيف رفعت
- وإلى الجبال كيف نصبت
- وإلى الأرض كيف سطحت)
- (فانظر إلى آثار رحمة الله: كيف يُحيي الأرض بعد موتها).
- (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينَعْه).
- (انظروا ماذا في السماوات والأرض).
- (سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق).
- (أفرأيتم ما تحرثون؟… أفرأيتم الماء الذي تشربون؟… أفرأيتم النار التي تُورون؟…).
- (ألم تـر أن الله أنـزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرّة).
- (ألم تـر أن الله سخّر لكم ما في الأرض).
- (ألم تـر أن الله يُزجي سحاباً ثم يؤلف بينه).
- (ألم تـر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل).
- (ألم تـر أن الله أنـزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها).
- (ألم تـر أن الله أنـزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض).
- (ألم تـر أن الله سخّر لكم في ما في السماوات وما في الأرض).
- (أوَلَمْ يَرَوْا إلى ما خلق الله من شيء).
- (أوَلَمْ يَرَوْا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم).
- (أوَلَمْ يَرَوْا أن نسوق الماء إلى الأرض الـجُرُز).
- (أفَلَمْ يَرَوْا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض).
- (فارجع البصر هل تـرى من فطور).
- سُبُع آيات القرآن الكريم من هذا القبيل!
- وتذكيرٌ في القرآن الكريم بين الفينة والفينة بأنه (لقوم يعقلون)..
(لقوم يتفكّرون).. (لأولي الألباب).. (لذي حِجْر).. (لأولي النُّهَى)…
ولو أن الدهشة لا تكاد تنقضي من هذا الموقف.
وأما الاستياء من موقف رأس الكنيسة فلأنَّ علماء المسلمين، قد فتحوا قلوبهم وعقولهم لكلٍ مَنْ دعاهم إلى الحوار. مُدركين أن حواراً كهذا بين أهل الأديان، ينطلق من الـجَوَامع المشتـركة، ويكون مجبولاً بالنية الحسنة والإخلاص الجميل، ويَنْأَى عن المناقشات العقيمة في تفاصيل كل دين، سوف يُفضي بعَوْن الله إلى صعيد مشتـرك، وموقف موحَّد لإنقاذ البشرية مما تنحدر إليه بسرعة مخيفة، من أفكار وسلوكيات ومواقف، تهدِّد إنسانيَّةَ الإنسان، ودوره في عمارة الأرض وإدامة الحياة على هذا الكوكب.
فكيف سيُقبل علماء المسلمين بعد هذا الذي سمعوه من رأس الكنيسة على مواصلة الحوار، وهم الذين لم يتـردَّدوا منذ البداية في قبول كل دعوة وُجِّهت إليهم إلى هذا الحوار، وفي أيّ مكان كان، وكانوا على الدوام دُعاةً متحمِّسين إلى نَبْذ كل ما يُحدث الشقاق ويعمِّق الفُرْقة. بل كيف سَيَدْعون غيرهم من العلماء للانضمام إليهم في محاورة قوم لم يجد كبيرُهم مدخلاً لمحاضرته الجامعية عن الانسجام بين العلم والدين والعقل، إلا سؤالاً لإمبراطور بيزنطي لا يكاد يذكره أحد لشخص مجهول لا يعرفه أحد، ثم يبني محاضرته كلَّها على هذا السؤال الذي كلُّ ما فيه طعنٌ لا دليل عليه، بنبي يؤمن به وبدينه مليار وثلث مليار من سكان العالم؟
إن أقل ما يمكن أن يطالب المرء به، هو أن يسمعَ بياناً تفصيلياً من رأس الكنيسة شخصياً، يتضمَّن اعتذاراً عن تناول موضوع جادّ من هذا القبيل، بطريقة لا تـتفق مع أبسط قواعد المنهج العلمي، فضلاً عن الإساءة إلى مشاعر أتباع دين، أقلُّ ما فيه أنه يقول عن السيد المسيح صلوات الله وسلامه عليه: (وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور)؛ وليس من الهدى والنور في شيء، أن يُقال مثل هذا الكلام عمَّن شهد للسيد المسيح هذه الشهادة.
وسوف يتطلَّب الأمر بعد ذلك جهوداً كبيرة من جميع الأطراف، حتى تصفو القلوب ويندمل الجرح ويعود الجميع إلى الحوار بنيَّة صادقة وقلب سليم.
(قل يا أهل الكتاب تعالَوْا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم:
- أن لا نعبد إلا الله؛
- ولا نشرك به شيئاً؛
- ولا يتَّخذ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله.
فإن تولَّوا، فقولوا اشهدوا بأنَّا مسلمون).



