خطابات

الإيجابية في فلسفة المجهول

المستشفى الوطني بدمشق

ليل 19 رمضان 1377 هـ

 

أكتبُ هذه الكلمات وحدي، في ظلام الليل، وأنا مصابٌ بصداعٍ عنيف، لسببٍ (مجهول) ! لم أعرف له سبباً، ولم يعرف سوايَ له سبباً … وفكرت أن أوسّع الدائرة قليلاً لأتعرَّف إلى مبلغ المعلوم ونسبته إلى المجهول، ووجدتُ عجباً ..

كلُّ ما علمناه ونعلمه لا يزال إلا نقطةً صغيرة في خِضَمِّ المجهول ..

وفكرتُ أن أنظر إلى الموضوع من زاوية أخرى .. تُرى هل تطمئنُّ نفسُ المرء اطمئنانَها التام في ظلام دامس، أو في نور واضح يُبدي جميع الأشياء على حقيقتها، أم تطمئنُّ في جو مظلم فيه نور خافت، يُلقي على بعض الأشياء بعضَ النور، ويَدَعُ في طيَّات ما يتـرك وراءها من أخيلة أشياءَ كثيرة في الظلام …

والذي اطمأنت إليه نفسي هذا النمط الأخير ..

ثم ..

ثم نظرت إلى الموضوع من زاوية ثالثة .. ترى ما الذي كان يحدث لو كان كلُّ شيء في الكون معلوماً ؟ يالله ! أيُّ أمر فظيع ذلك الذي سيقع بالبشر .. إن كانوا جميعاً يعرفون كلَّ حقيقة، فلن تبقى إذن لذة النظر والتفكّر والبحث العلمي الحلو .. إن كان كل امرئ يعرف مستقبله، فسَيغدو الجميع (تنابلة) لا يتحركـون .. ولِمَ ؟ والسعيد منهم يعرف أنه سعيد منذ البداية فلا لزومَ لسعيه، والشقي يعرف أنه شقي منذ البداية فلا فائدة لسعيه .. إنْ كان كل امرئ منهم يعرف غيره، فَكَمْ ستحُلّ بينهم من شرور ونزاعات .. بل إن كان كلٌ منهم يعرف نفسَه فما الذي سيحدث ..

وأيقنتْ كم هي إيجابيةٌ فلسفةُ المجهول هذه ..

تعلّمت في الفلك أن الكونَ كلَّه ظلام دامس، وليس فيه إلا بعضُ السُّرُج المضيئة الضئيلة، وبعضُ الأجرام المنيرة التي تعكس نورَ تلك السرج والمصابيح ولأمرٍ ما كان الأمر كذلك ..

كان أفلاطون وفلاسفة اليونان القدماء يقولون إن الكون مخلوقٌ في الشكل المثالي الجميل .. وحقاً ما ذكروا .. وإنّه لكذلك.

كَمْ هو مريحٌ للنفس أن تتـراقصَ أمامها الأخيِلة: تخفي خلفها الكثير ولا تبدي لها إلا القليل .. بل كَمْ هو مولّد قويٌّ للإنتاج أن يبقى المستقبل غامضاً تلقاء النفس، وأن تبقى كثير من الأمور في حاجة إلى بحث طويل وغوص في الأسرار ..

كم هي إيجابيَّةٌ فلسفةُ المجهول هذه .. أو فلنَدَعْ كلمة المجهول فلدينا ما هو أحلى منها، كلمة (الغيب) .. فلسفة الغيب .. كم هي إيجابيةٌ فلسفة الغيب هذه.

ولعلّه لذلك يجعلها الله عزّ وتعالى صفة سامية، ويجعل الإيمان بها أُولى صفات المتقين، ويجعلها السبب الأول في حيازة الإنسان على الفلاح.

(ألف . لام . ميم … ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتقين: الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدىً من ربهم وأولئك هم المفلحون).

وصدق الله !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى