الاحتياط وقطع الذرائع والمشتبه فيه في الدين الإسلامي

ذهب قوم إلى تحريم أشياءَ على سبيل الاحتياط، ومخافةَ أن يُتَذَرَّعَ منها إلى الحرام البحت. واحتجوا في ذلك بما رواه مسلم عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله يقول: (( إنَّ الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن، وبينهما مشتبهاتٌ لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس. فمن اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وَقَعَ في الشبهات وَقَعَ في الحرام، كالراعي يرعى حول الـحِمَى يوشك أن يرتع فيه. ألا وإن لكل ملك حِمى، ألا وإن حِمَى الله محارمُه )).
وفي رواية للبخاري عن النعمان بن بشير قال النبي : (( الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهة، فمن تـَرَكَ ما شُبِّهَ عليه من الإثم كان لما اسْتَبَانَ أتـْرَك، ومن اجْتَـرأ على ما يشكُّ فيه من الإثم أَوْشَكَ أن يُواقع ما استبان. والمعاصي حِمى الله: مَنْ يرتعْ حول الحمى يوشكْ أن يُواقعَه )). وفي رواية عنه: (( إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن، وإن بين ذلك أموراً مشتبهات. وسأضرب لكم في ذلك مثلاً: إن الله جلَّ ذِكْرُه حَمَى حِمىً، وإن حِمَى الله ما حرَّم، وإنه مَنْ يَرْعَ حول الحِمَى يوشك أن يَرْتَعَ فيه، وإنه مَنْ يُخالطِ الريبةَ يوشك أن يَجْسُر [يتجاسر] )).
فهذا نصٌّ جَلِيٌّ على أنَّ ما حول الـحِمَى ليس من الـحِمَى، وأن تلك المشتَبـِهات ليست – بيقين – من الحرام، وإذا لم تكن مما فُصِّل من الحرام فهي على حكم الحلال لقوله تعالى: ]وقد فصَّل لكم ما حرَّم عليكم[ [الأنعام: 119]. فما لم يُفَصَّل تحريـمُه فهو حلال، لقوله تعالى: ]هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً[ [البقرة: 29]، وما خَلَقَهُ لنا فقد أحَلَّهُ وأباحَهُ لنا. فدعوة النبي إلى تَرْك الـمُشْتَبهات، إنما هو حضٌّ منه عليه السلام على الوَرَع، وقد بيَّن النبي في الحديث الذي رواه البخاري، أن هذا الوَرَعَ إنما هو مستحبٌّ للمرء فيما أشْكَلَ عليه خاصةً، وأنَّ حُكْمَ من اسْتَبَانَ له الأمر إنما هو بخلاف ذلك.
****
كذلك بيَّن رسول الله أن الـمَخُوف على من واقَعَ الشبهات، إنما هو أن يتجاسر بعدها على الحرام، فصحَّ بهذا البيان أن معنى (( وَقَعَ في الحرام )): هو كلُّ فعل أدَّى إلى أن يكون فاعلُهُ متيقِّناً أنه راكبُ حرام في حالته تلك. وأما ما يُوقَنُ تحليلُه فلا يُزيلُه الشك عن ذلك. ولفظةُ ((أوْشَكَ )) في رواية البخاري توضِّح الـمُرَاد. أما مـا رواه عطية السعـدي قـال: قـال رسـول الله r: (( لا يبلغ العبد أن يكون من المتَّقين حتى يَدَعَ ما لا بأس به حذراً لما به بأس )). فإنما هو حضٌّ واستحبابٌ لا إيجاب. فلو كان المشتبه حراماً وفرضاً تَرْكُهُ، لكان النبي قد نهى عنه، ولكنه عليه السلام لم يفعل ذلك، وإنما حضَّ على تـَرْكه، وخافَ على مُواقِعِهِ أن يُقْدِم على الحرام، وشبَّه ذلك عليه السلام بالرَّاتع حول الحمى. فالحِمَى هو الحرام، وما حَوْلَ الحِمَى ليس من الحِمَى، والـمُشْتَبِهاتُ ليست من الحرام، وما لم يكن حراماً فهو حلال، وهذا في غاية البيان، وهذا هو الوَرَع الذي يحمد فاعله ويُؤجر، ولا يُذَم تاركه ولا يأثم، ما لم يُوَاقع الحرام البيِّن.
ولو أخذنا حديث عطية على ظاهره، لَوَجَبَ به أن يُجتنب كلُّ حلال في الأرض، لأن كلَّ حلال فلا بأسَ به، وإنّما المقصود منه هو الورع فقط. ومن حرَّم المشتبه وأفتى بذلك وحكم به على الناس، فقد زادَ في الدين ما لم يأذن به الله تعالى، وخالفَ النبي، واستدرك على ربه تعالى بعقله أشياءَ من الشريعة. وقولُه إذْ سأله أصحابه رضي الله عنهم، فقالوا: إن أعراباً حديثي عهد بالكفر يأتوننا بذبائح لا ندري أسَمَّوا الله تعالى عليها أم لا؟ فقال عليه السلام (( سَمُّوا الله أنتم وكلوا ))، يرفع الأشكال جملةً في هذا الباب.
ولا يحلُّ لأحد أن يحتاط في الدين بتحريم ما لم يحرِّم الله تعالى، لأنه يكون حينئذ مفتـرياً في الدين، والله تعالى أحْوَطُ علينا من بعضنا على بعض، فالفرضُ علينا أن لا نحرِّم إلا ما حرَّم الله تعالى ونصَّ على اسمه وصفته بتحريمه، وفرضٌ علينا أن نبيح ما وراء ذلك، بنصِّه تعالى على إباحة ما في الأرض لنا إلا ما نصَّ على تحريمه، وأن لا نزيد في الدين شيئاً لم يأذن به الله تعالى، فمن فعل غير هذا فقد عصى الله عز وجل ورسوله.
والفَيْصلُ في ذلك كلِّه قولُ الله تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتـروا على الله الكذب) [النحل: 116]، وقولُه تعالى: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل آلله أذِنَ لكم أمْ على الله تفتـرون) [يونس: 59]. فصحَّ بهاتَيْن الآيتين أن كل من حلَّل أو حَرَّمَ ما لم يأت إذنٌ من الله تعالى في تحريمه أو تحليله فقد افتـرى على الله كذباً. ونحن على يقين من أن الله تعالى قد أحلَّ لنا كلَّ ما خلق في الأرض، إلا ما فصَّل لنا تحريمه بالنص، لقوله تعالى: ]خلق لكم ما في الأرض جميعاً[ ولقولـه تعالى: ]وقد فصَّل لكم ما حرَّم عليكم[. فبَطَلَ بهذين النصَّيْن الجليَّـيْن أن يحرِّم أحدٌ شيئاً باحتياطٍ أو خوف تذرُّع.
وأيضاً فإن رسول الله أمَرَ مَنْ تَوَهَّمَ أنه أحْدَثَ، أن لا يلتفت إلى ذلك، وأن يتمادى في صلاته وعلى حكم طهارته – هذا في الصلاة التي هي أوْكَدُ الشرائع – حتى يسمع صوتاً أو يشم رائحة. فلو كان الحكم بالاحتياط حقاً، لكانت الصلاة أوْلَى ما احتيطَ لها؛ ولكن الله تعالى لم يجعل لغير اليقين حكماً.



