الطب الوقائي والعلاجي في ظل الإسلام

أجمع الأطباء – من قبلُ ومن بعدُ – على أن الطب طِبَّان: طبٌّ وقائي، ويُعنَى به حفظُ الصحة على الأصحاء وتعزيز هذه الصحة وتحسينها، وطبٌّ علاجي، ويُعنَى به ردُّ الصحة على المرضى بالمداواة وبالتأهيل. وإذا كان من الطبيعي أن نجد في القرآن الكريم والسنَّة النبوية المطهَّرة كثيراً من النصوص التي تتعرَّض إلى حفظ صحة الإنسان وشفائه، فإن رسول الله – كما يقول ابن القيم – إنما بُعث هادياً، وداعياً إلى الله وإلى جنته، ومعرِّفاً بالله، ومبيِّناً للأمة مواقع رضاه وآمراً لهم بها، ومواقع سخطه وناهياً لهم عنها. وأما طب الأبدان فجاء من تكميل شريعته، ومقصوداً لغيره.
وأهم ما ورد في شأن الطب العلاجي، أن النبي قرَّر مبدأ التداوي وأمر به، وحَثَّ الأطباء على التفتيش عن الدواء والقيام بالبحث العلمي الذي يوصلهم إليه، ووضع للناس قضية التداوي في موضعها الصحيح، فلا مكان في الإسلام للتَوَاكُل باسم التوكُّل، بل إن المسلم مأمورٌ بأن يدفع قدر الله (الذي هو المرض) بقدر الله (الذي هو العلاج)، متوكِّلاً في ذلك على الله.
كما أن النبي، قد قاوم ما يسمَّى (( بالطب الروحاني ))، واحترم الطب القائم على الملاحظة والتجربة، والأسباب والمسبِّبات، وأبطل ما أشاعته الوثنية الجاهلية عند العرب وغيرهم، من اطِّراح الأسباب الظاهرة والسنن الكونية، والاعتماد على الأسباب الخفية والقوى المجهولة، من تمائم، ورُقى غير مفهومة، وشعوذة يروجها السحرة والدجالون.
وثـَمَّةَ أحاديث فيها توجيهات شرعية متعلِّقة بعملية التداوي وشؤون المرضى، مثل قيام النساء بمداواة الجرحى وغيرهم من الرجال، ومثل أحاديث الأمر بعيادة المرضى.
ولابدَّ للاحتجاج بأيٍّ من الأحاديث التي من هذه الفئة الأخيرة في باب الطب من أحد أمرَيْن:
الأول: أن يكون الحديث على درجة عالية من الصحة، فلا يعتبر حجَّة من الناحية الطبية الصِّرفة حديثٌ ما لم يكن ثابتاً على سبيل القطع (وهو الحديث المتواتر)، أو على سبيل شبه القطع.
والثاني: أن يخضع مضمون الحديث للتجارب الطبية تحت نظر الاختصاصيـِّين. فإن ثبتت صلاحيته فَبـِها، وتكون التجارب هي الحجَّة في ذلك.
أما الطب الوقائي وحفظ الصحة على الأصحاء، فذلك جزءٌ واضح من هديه، لأن قواعد حفظ الصحة قواعد عامة، تنسجم مع سنن الله في خلقه، والقوانين التي وضعها الخالق لخليقته، وتسعى إلى المحافظة على خَلْق الله في وضعه الأمثل.
فلا عجب إذن، أن نجد في كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه، كثيراً من النصوص التي تضمن للإنسان حفظ صحته، وتعزيزها، والمحافظة على وضعه السوي الذي فطره الله عليه. ولو أننا تعمَّقنا في فهم هذه النصوص، وطبَّقناها تطبيقاً سديدا على ما ينبغي أن يفعله الإنسان، إذن لوجدنا بين أيدينا سِفْراً مسهباً في فقه الصحة، بناءً على أن الشريعة هي النصوصُ المحكمةَ، والفقهَ هو عمل الفكر الإسلامي في إعمال هذه النصوص.
العدوى من منظور إسلامي
صحَّ عن سيدنا رسول الله قولُه: (( لا ضَرَرَ ولا ضِرَار )) [رواه الدار قطني عن أبي سعيد الخدري، وقال عنه الحاكم: صحيح على شرط مسلم]. وهذه العبارة الجامعة الفذة مؤكدة بصيغ أخرى كقوله: (( ملعون من ضار مؤمناً أو مكر به )) [رواه الترمذي عن أبي بكر وقال حديث غريب]، وقوله : (( من ضار أضر الله به )) [رواه ابن ماجة وأبو داوود عن أبي صرامة]، أو قوله: (( من ضار مؤمناً ضار الله به )) [رواه الترمذي عن أبي صرامة وقال حديث حسن غريب].
و“لا” هذه التي وَرَدَتْ في قوله: (( لا ضَرَرَ ولا ضِرَار ))، هي التي أسمَّيها: “لا النافية للجَوَاز”. ويأتي الاسم الذي بعدَها منصوباً بها، كما في قوله تعالى: )لا إكراهَ في الدين( [سورة البقرة:256]: أي لا يجوز الإكراه في الدين؛ وقوله سبحانه: )فلا عدوانَ إلا على الظالمين( [سورة البقرة:193] أي لا يجوز الاعتداء إلا على الظالمين، وأمثالُ ذلك في كتاب الله كثير.
وقد جاء تحريمُ الضرر في كتاب الله عز وجل في قوله تعالى [سورة الأعراف:33] )قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم( وقوله في [سورة الأنعام:120] )وذروا ظاهر الإثم وباطنه(، مع قوله سبحانه في [سورة البقرة:219] عن الخمر والميسر: )فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما( فجعل الإثم نقيضَ النفع، فهو الضرر إذن، وهو -كما نرى- محرَّم بنص القرآن، لا يحل للمسلم أن يَضُرَّ بنفسه أو يُضارَّ غيره. وذلك في كتاب الله كثير.
ويدخل في باب الضَّرَر والضِّرار موضوع العدوَى. فلا يجوز للمسلم أن يُعرِّضَ نفسه للعدوى، كما لا يَحِلُّ له أن يُعدي أخاه، أو يتهاوَنَ في ذلك، أو يجلبَ أسباب العدوى إلى المجتمع، فذلك يندرج تحت هذه القاعدة الشاملة، قاعدة تحريم الضرر والضرار، وقد قال رسول الله: (( لا يُورد الـمُمْرض [أي صاحب الحيوانات المريضة] على الـمٌصِحّ [أي صاحب الحيوانات الصحيحة] )) [متفق عليه عن أبي هريرة]. والأصْرَحُ من ذلك قولُ النبي عليه الصلاة والسلام: (( لا عدوَى، ولا طِيَرَة )) [رواه البخاري عن عبد الله بن عمر وأنس بن مالك]، و”لا” هنا هي “النّافية للجواز” أيضاً. فهذا الحديث نهيٌ عن العدوى كما أنه نهيٌ عن التطيُّر [التشاؤم]، وليس نفياً للعدوى كما يظنّ الكثيرون كما أنه ليس نفياً للتطيُّر، لما يفهم من قوله في حديث آخر: (( لا طِيَرَةَ، وخيرُها الفأل [التَّفاؤل] )) [متفق عليه] فهذا ليس نفياً للطيرة بدليل قوله (( وخيرُها الفأل ))، ولكنه نهيٌ عنها وزجر. وهذا الفهم ينسجم أيضاً مع آخر الحديث في رواية (( وفِرَّ من المجذوم فِرارَك من الأسد )). وحينما استشكلَ ذلك أحدُ السامعين، لأنه فهم كلام النبي على أنه نفيٌ للعدوى، فقال: (( أرأيت البعير يكون به الجرَب فَتَجْرَبُ الإبل )) احتاط النبي r للسائل وغيره خشية أن يؤمن هو أو غيره بِرَدِّ الأسباب إلى غير الله عز وجل فقال له: (( ذاك القدر، فمَنْ أجْرَبَ الأوَّل ؟ )). فتلك مبادرةٌ إلى تصحيح خطأ الفهم.
ومِمَّا يؤيد ذلك أنه قد سُئل رسول الله فقيل له: (( أرأيت رُقىً نَسْتَرْقيها، ودواءً نتداوَى به، وتُقاةً [وقايةً] نتَّقيها هل تردُّ من قدر الله شيئاً ؟ قال : هي من قدر الله )) [رواه الترمذي عن أبي خزامة]. ومثلُ ذلك ما فهمه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم أبَى الدخول على الطاعون. فقد روى الإمام مالك في الموطأ عن عَبد اللهِ بن عبَّاس أنَّ عُمرَ بن الخطَّاب رضي الله عنه خَرَج إلى الشام. حتى إذا كان بسَرْغ [موضع بالشام] لَقِيَهُ أمَراءُ الأجناد؛ أبو عُبيدةَ بن الجرَّاح وأصحابهُ. فأخبرُوهُ أن الوَباء قد وَقعَ بالشام. قال ابن عبَّاس، فقال عُمر بن الخطاب: “ادعُ لي المهاجرين الأولين”. فدعاهم فاستَشارهُم، وأخبرَهم أن الوباء قد وقع بالشام. فاختلفوا؛ فقال بعضهم: قد خرجتَ لأمر؛ ولا نرى أن ترجعَ عنه. وقال بعضُهم: معك بقيَّةُ الناس وأصحابُ رسول الله، ولا نَرَى أن تُقْدِمَهم على هذا الوباء فقال عُمر: “ارتَفِعوا عنّي”. ثم قال: “ادعُ لي الأنصار”. فدعوتُهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم. فقال: “ارتفعوا عني”. ثم قال: “ادْعُ لي مَن كان هاهُنا من مَشْيخة قُريش، من مُهاجرة الفتح”. فدعَوتُهم فلم يختلف عليه منهم اثنان؛ فقالوا: نرى أن ترجعَ بالناس ولا تُقْدِمَهُمْ على هذا الوباء. فنادى عمرُ في الناس: إني مصبحٌ على ظَهْر [أي: مسافر غداً صباحاً]، فأصبحوا عليه. فقال أبو عُبيدة: أفِراراً من قدر الله؟ فقال عمر: “لو غيرُك قالها يا أبا عُبيدة!! نَعَمْ، نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله! أرأيتَ لو كان لك إبلٌ فهبطَتْ وادياً له عُدْوَتانِ [ضِفَّتان]، إحداهما مُخصِبةٌ والأخرى جَدْبةٌ، أليس إن رَعيتَ الخصبةَ رعيتها بقدر الله ؟ وإن رعيتَ الجدبةَ رعيتها بقدر الله ؟”. فجاء عبد الرحمن بن عوفٍ رضي الله عنه وكان غائباً في بعض حاجته؛ فقال: إنَّ عندي من هذا علماً، سمعتُ رسول الله يقول: “إذا سمعتم به بأرضٍ فلا تَقْدَموا عليه. وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها، فلا تخرُجوا فراراً منه” قال: فحمد الله عمر، ثم انصرف [أي: رَجَع بمنْ معه إلى المدينة].
وإلى مثل هذا أشار الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله بقوله: “إنَّ كثيراً من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، إلا أنا فإنِّي انفتحت لي فيه رَوْزَنَة [نافذة]، فنازَعْتُ أقدار الحقِّ بالحقِّ للحقِّ، والرجل مَنْ يكون منازعاً للقَدَر لا مَنْ يكون موافقاً للقدر!”.
نَقَل هذه العبارة شيخ الإسلام ابن تيميَّة في رسالة “العبودية” وعلَّق عليها بقوله:
“والذي ذكره الشيخ رحمه الله هو الذي أمَرَ به الله ورسوله. لكن كثيراً من الرجال غلطوا، فإنهم قد يشهدون ما يُقَدَّر على أحدهم من المعاصي والذنوب… فيظنُّون أنَّ هذا جارٍ بمشيئة الله وقضائه… فيظنُّون الاستسلامَ لذلك وموافقتَه والرضاءَ به ونحو ذلك ونحو َذلك ديناً وطريقاً وعبادةً، فيُضاهون المشركين الذين قالوا: )لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرَّمنا من شيء( [الأنعام:148]، وقالوا: )لو شاء الرحمن ما عَبَدْناهم( [الزخرف: 20]. ولو هُدُوا لعلموا أنَّ القدر أُمِرْنا أن نرضى به ونصبر على موجبه في المصائب التي تصيبنا كالفقر والمرض والخوف، قال تعالى: )ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها؛ إنَّ ذلك على الله يسير. لكي لا تأسَوْا على ما فاتكم ولا تفرحوا [تَبْطَرُوا] بما آتاكم( [الحديد: 22]…”.
يقول رسول الله: “المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف؛ وفي كلٍّ خير ! اِحْرصْ على ما ينفعُك، واستَعِنْ بالله، ولا تعجَز؛ وإن أصابك شيءٌ فلا تَقُلْ: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قُلْ: قدَّر الله وما شاء فعل، فإن “لو” تفتح عمل الشيطان”. [رواه مسلم عن أبي هريرة].
أمَرَ النبيُّ بحرص الإنسان على ما ينفعُه، والاستعانة بالله؛ ونهاه عن العجز، وهو الإضاعة والتفريط والتَّوَاني، ثمَّ أمَرَهُ إذا غَلَبَه أمرٌ – بعد أن قام بواجبه وبَذَلَ كلَّ جهده في دفعه – أن ينظر إلى القدر ويقول: قدَّر الله وما شاء فَعَل؛ ولا يتحسّرَ ويتلهف ويحزن، ويقول: لو فعلتُ كذا لكان كذا، فإن “لو” تفتح عمل الشيطان.
“… وأما المؤمنون بالله ورسوله – كما يقول شيخ الإسلام ابنُ تيميَّة – … فيجتهدون في إقامة دينه، مستعينين به، رافعينَ مُزيلينَ بذلك ما قُدِّر من السيئات، دافعين بذلك ما قد يُخاف من آثار ذلك، كما يُزيل الإنسانُ الجوعَ الحاضر بالأكل، ويدفع به الجوعَ المستقبَل، وكذلك إذا آن أوان البرد دفعه باللباس، وكذلك كل مطلوب يُدفع به مكروه، كما قالوا للنبي: يا رسول الله! أرأيتَ أدويةً نتداوى بها، ورُقىً نسترقي بها، وتُقاةً نتَّقي بها، هل تردُّ من قَدَر الله شيئاً ؟ فقال: “هي من قَدَر الله”. وفي الحديث: “إنَّ الدعاءَ والبلاءَ لَيَلْتَقيان فيَعْتَلِجان [أي يتصارعان] بين السماء والأرض !” [رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد].



