الـمتشابه في القرآن الكريم والحكمة منه

اليوم: 17/1/2009
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. كانت الأخت عزّة في مرة سابقة طلبت أن أتحدَّث قليلاً عن بعض ما يتعلَّق بالتصوّف باعتبار أنني كثيراً ما أستشهد بأقوال الشيخ عبد القادر الجيلاني وغيره من أئمة الصوفية بالإضافة إلى المقولات التي نسمعها أحياناً على بعض المتصوِّفَة، وطبعاً هذا ينعكس بصورة خاصة على نوعية خاصة منهم ليس على الجميع، فكان من الضروري تصحيح الفكرة، والحقيقة تحدَّثنا المرة الماضية شيئاً ما عن هذا الموضوع واستشهاد شيخ الإسلام ابن تيمية ببعض ما قاله الشيخ عبد القادر الجيلاني ممكن أن نستـرجعه لأني وجدته في كتاب آخر لشيخ الإسلام ابن تيمية يحوم حول نفس الموضوع، وبعد ذلك طبعاً يتناوله بشكل آخر.
سُئل شيخ الإسلام عن الصبر الجميل والصَّفْح الجميل والـهَجْر الجميل، يقول الله سبحانه وتعالى: فاصبر صبراً جميلاً، فاصفح الصَّفْح الجميل، واهجرهم هَجْراً جميلاً، فالبُعْد الجمالي يجب أن يتجلَّى في كل شيء في الإسلام. وأجاب الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية قال: الحمد الله، أما بعد، فإنَّ الله أمر نبيَّه r بالـهَجْر الجميل والصَّفح الجميل والصبر الجميل، فالهجر الجميل هجرٌ بلا أذى (والأذى هو الإزعاج، فالناس يظنُّون أن الأذى معناه الضرر، لا لكن الأذى معناه الإزعاج: ]إن الذين يؤذون الله ورسوله[ ليس معناها يضرُّون الله ورسوله، لا بل الأذى هو الإزعاج أو الشيء المقزِّز أو المقرف، أما الأذى بمعنى الضرر فهذا معنى مُستحدَث ليس له أصل في اللغة إطلاقاً، والله سبحانه وتعالى يقول: ]يسألونك عن المحيض قل هو أذى[ ليس معناها أن فيه ضرر وإنما مجرد أنه من الناحية الجمالية لا يحسُن أن يحصل لقاء في هذه الحالة).
فالهجر الجميل هجرٌ بلا أذى، والصفح الجميل صفحٌ بلا عتاب (أي أنه إذا واحد سامح أخاه فلا داعي أن يعاتبه)، والصبر الجميل صبرٌ بلا شكوى، قال يعقوب عليه الصلاة والسلام: إنما أشكو بثـّي وحزني إلى الله، مع قوله – سيدنا يعقوب أيضاً -: فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون (في قصة أولاده)، فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر الجميل، فسيدنا يعقوب قال: إنما أشكو بثـّي وحزني إلى الله في الوقت الذي قال فيه: فصبرٌ جميل، ويُروَى عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: اللهم لكل الحمد وإليك الـمُشتَكَى وأنت الـمُستعان وبك الـمُستغاث وعليك التُّكلان يعني التوكُّل، ومن دعاء النبي: اللهم إليك أشكو ضعفَ قوَّتي وقلَّة حيلتي وهواني على الناس (هذا عندما كان في الطّائف وغادرها بعد أن هاجمه بعض الصبيان وأزعجوه) فقال: أنت ربُّ المستضعَفين وأنت ربي إلى من تَكِلُني ؟ إلى بعيدٌ يتجهّمُني أم إلى عدوٍّ ملَّكته أمري (لكن) إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أُبالي، غيرَ أن عافِيَتك أوسعُ لي أعوذُ بنور وجهك الذي أشرقت له الظُّلُمات وصَلَحَ عليه أمرُ الدُّنيا والآخرة أن يَحِلَّ بي غضبُك أن ينزل عليّ سخَطُك، لكَ العُتْبَى حتى ترضى ولا حولَ ولا قوةَ إلا بك.. هذا هو الصبر الجميل. وكان عمر بن الخطاب يقرأ في صلاة الفجر: إنما أشكو بثـّي وحزني إلى الله ويبكي حتى يُسمَع نشيجه من آخر الصفوف، بخلاف الشكوى إلى المخلوق هذه الشكوى إلى الله.
قُرِأَ على الإمام أحمد في مرض موته أن طاووساً (طاووس هو أحد العلماء التابعين) كَرِهَ أنين المريض وقال إنه شكوى إلى المخلوق، فالواحد عندما يَئِنّ فكأن هذا شكوى إلى المخلوق، فما أَنَّ أحمد بن حنبل حتى مات، مع كل الوجع الذي كان يتوجَّعه، وذلك أن المشتكي طالبٌ بلسان الحال إما إزالة ما يضرُّه أو حصول ما ينفعه، والعبد مأمورٌ أن يسألَ ربَّه دونَ خلقِه كما قال تعالى: ]فإذا فَرَغتَ فانصَب وإلى ربِّك فارغَب، فالسؤال يكون لله عزّ وجل، وقال لابن عباس: إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، .. ولابد للإنسان من شيئين: طاعتُه (أي طاعة الله عزّ وجل، تتجلَّى الطاعة أو التقوى بفعل المأمور وترك المحظور، هذا هو تعريف التقوى المختصر المفيد، فعل المأمور وترك المحظور هذه طاعة الله عزّ وجل) إذن الطاعة هي أحد الشيئين، والشيء الآخر هو الصبر على ما يصيبه من القضاء المقدور، فلما يحصل القضاء والقدر يصبر عليه، فالأول هو التقوى والثاني هو الصبر، يعني فعل المأمور وترك المحظور هو التقوى، والثاني كما قلنا هو الصبر على القضاء المقدور، قال تعالى: يا أيُّها الذين آمنوا لا تتخِّذوا بـِطانةً من دونكم لا يَألونكم خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّم .. إلى قوله: وإن تصبروا وتتقوا لا يضرُّكم كَيْدُهُم شيئاً إنَّ الله بما يعملون ….، تصبروا وتتقوا. قال تعالى: بلا إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فَورهم هذا يمددكم ربُّكم بخمسةِ آلافٍ من الملائكة مُسوِّمين، وقال تعالى: لَـتُـبْـلَوُّنَّ في أموالكم وأنفسكم ولَتَسمَعُنَّ من الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً [أي الإزعاج] وإن تصبروا وتتقوا فإنَّ ذلك من عَزْمِ الأمور، وقد قال يوسف عليه الصلاة والسلام: أنا يوسُف وهذا أخي قد مَنَّ الله علينا إنه من يَتَّقِ ويصبر فإن الله لا يضيعُ أجرَ المحسنين،
إذن التقوى والصبر، طاعة الله عزّ وجل والصبر على قَدَر الله عزّ وجل، ولهذا كان الشيخ عبد القادر الجيلاني ونحوه من المشائخ المستقيمين يوصون في عامة كلامهم بهذين الأصلين: الـمُسارعة إلى فعل المأمور والتقاعُد عن فعل المحظور والصبر والرضا بالأمر المقدور. وذلك أن هذا الموضع غَلِطَ فيه كثيرٌ من العامَّة بل ومن السَّالِكين فمنهم من يَشهَدُ القَدَرَ فقط [الـمُقدَّر] ويشهد الحقيقة الكَوْنية دونَ الدينية، وهذان أمران مختلفان تماماً فعندنا حقائق كونية وحقائق …. الله سبحانه وتعالى له إرادة كونية، هذه تتناول البَرّ والفاجِر والمسلم والكافر والإنسان والحيوان وكل شيء، فهذا تدبير للكَوْن فوضع الله سبحانه وتعالى قوانين ونظام لهذا الكَوْن تسير عليها كل الأعمال التي في الكَوْن هذا بإرادة الله وأمر الله، وهذه القوانين لا يستطيع أحد أن يُبدِّلها: ]فلن تجد لسنَّة الله تبديلاً ولن تجد لسنَّة الله تحويلاً[، حتى تطبيقها في الحياة العملية؛ يعني فرامل السيارة يجب أن تُفحَص فإذا كانت لم تُفحَص فحصاً جيداً ولم تخضع لصيانة جيدة فبناءً على القانون الكوني السيارة ستتدهور، هذا قانون من القوانين الكونية، فهذا إذا حصل صحيح أنه حصل بموجِب هذا القانون لكن هناك مسؤول على كلٍّ عنه، والمسؤول هو الذي لم يقم بهذا العمل فإذن القَدَر ليس عُذراً للإنسان أن يتقاعس عن الأمر ثم يقول أن هذا مُقدَّّر لا، لكن هنالك الحقيقة الدينية، والحقيقة الدينية هي الأوامر الشرعية، إذن أمر الله عزّ وجل منه الأمر الكوني ومنه الأمر الديني، منه الإرادة الكونية ومنه الإرادة الدينية، يعني مثلاً حينما يقول ربُّنا عزّ وجل: ]يريد الله بكم اليُسْر ولا يريد بكم العُسْر،
فهذه إرادة دينية يعني الله سبحانه وتعالى يريد منكم أن تلتزموا الأشياء الـمُيَسَّرَة وأن تجتنبوا الأشياء الـمُعَسَّرَة، إذن هذا أمر ديني، بينما الحقائق الكونية الأخرى: ]إنما أمرُه إذا أراد شيئاً أن يقولَ له كُن فيكون، هذه إرادة كونية تتعلَّق بالكَوْن، الإرادة الكونية تتعلَّق بربوبية الله عزّ وجل ولذلك كما قلت ليس فيها تفريق بين الطَّائِع والعاصي وبين المسلم وغير المسلم، لأن رب العالمين يقول في سورة الإسراء: كلاًّ نُمِدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربِّك وما كان عطاء ربِّك محظوراً[ فهو للجميع، ربوبية الله عزّ وجل تتجلَّى مع الجميع، وكذلك حينما قال سيدنا إبراهيم: ]ربِّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزُق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر[ ماذا قال له ربُّنا عزّ وجل ؟ قال: ]ومن كَفَر[، فالله لا يرزق فقط من آمن بالله واليوم الآخر بل هو سبحانه يرزق من الثمرات من كَفَر، أما بعد ذلك حسابه على الله هذا أمر آخر، لكن ربوبية الله عزّ وجل سيستوي فيها الجميع، فالحقيقة الكونية إذن شيء والحقيقة الدينية شيء آخر، هؤلاء الذين يشهدون الحقيقة الكونية ولا يشهدون الحقيقة الدينية لا يفرِّقون بين ما يحبُّه الله ويرضاه وبين ما يُسخِطُه ويُغضِبُه ولا يميِّزون بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، لذلك لا يفرِّقون كثيراً بين هذه الأحوال.
يقول ابن تيمية فإن هؤلاء كلَّهم يشتـركون في هذا الـجَمْع وهذه الحقيقة الكَوْنية وهي أن الله ربُّهم وخالقهم ومليكهم لا ربَّ لهم غيره، ولا يشهدوا الفَرْق الذي فرَّق الله به بين أوليائه وأعدائه وبين المؤمنين والكُفّار والأبرار والفُجّار، لأن أهل النار كانوا يقولون: ربَّنا غَلَبَت علينا شِقْوَتُنا، وإبليس قال: ربّي بما أغويتني، فإبليس معتَرِف بربوبية الله عزّ وجل، والكفّار معتَرِفين بربوبية الله عزّ وجل، المشكلة هي ألوهية الله عزّ وجل، يعني طاعة أوامر الله عزّ وجل ….، فالمشركون إذن كانوا يُقِرُّون بالحقيقة الكونية كما قال تعالى: ولَئِن سألتهم مَنْ خَلَقَ السماوات والأرض ؟ ليقولُنّ الله، وقال تعالى: قُلْ: لمن الأرض ومَنْ فيها إن كنتم تعلمون ؟ سيقولون: لله، قُلْ: أفلا تذكرون ؟!، قُلْ: من ربُّ السماوات السَّبع وربُّ العَرْش العظيم ؟ سيقولون: لله، قُلْ: أفلا تتقون ؟!، قُلْ: مَنْ بيده ملكوت كل شيء وهو يُجير ولا يُجارُ عليه إن كنتم تعلمون ؟ سيقولون: لله، قُلْ: فأنَّى تُسْحَرون ؟!، ولهذا قال سبحانه: وما يُؤمنُ أكثرهم بالله إلا وهم مُشرِكون، فهؤلاء مؤمنين بالله لكنهم مشركين، فمَنْ أقَرَّ بالقضاء والقَدَر دونَ الأمر والنهي الشرعيَـيْن فهو أكفرُ من الكفّار فإنَّ أولئك يُقِرُّون بالملائكة والرُّسُل الذين جاءوا بالأمر والنهي الشرعيَـيْن لكن آمنوا ببعض وكفروا ببعض كما قال تعالى: إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرِّقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتَّخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً[، هذا التهرُّب. هذا الموضوع طويل لكن الإشارة هنا كانت في البداية كما قلنا إلى الشيخ عبد القادر ونحوه من المشايخ المستقيمين يوصون في عامة كلامهم بهذين الأصلين: المسارعة إلى فعل المأمور والتقاعُد عن فعل المحظور والصبر والرِّضا بالأمر المقدور.
وقد ذكر الله تعالى الصبر والتقوى جميعاً في غير موضع من كتابه وبيَّن أنه ينتصر العبدُ على عدوِّه من الكفّار المحاربين المعاندين والمنافقين وعلى من ظلمهم من المسلمين وتكون لصاحبه العاقبة، قال الله تعالى: ]بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فَوْرهم هذا يُمْدِدْكُم ربُّكم بخمسة آلاف من الملائكة مُسَوِّمين[، وقد قال تعالى:



