مقالات

كيف أثرت التكنولوجيا على المجال الطبي؟

شهد العقدان الماضيان تغيّرات تكنولوجية سريعة الخطى· ووقع في السنوات العشر الأخيرة تحوُّلٌ في مجال الصناعة حدا بالقائمين عليها إلى التركيز على مجموعة مختلفة من التقنيات المتقدّمة التي تتطلب اتّباع أساليب كيميائية وفيزيائية وأخرى بيولوجية، مع الاتجاه بصورة متزايدة إلى الأخذ بالأساليب المتّبعة في مجال علم الجينات· ويتوقع المعنيّون أن يشهد العقد القادم صُوَراً ملحوظة من التقدم· ومن شأن هذه التطوّرات أن تحدث تغيّرات كبرى في معالجة العديد من الأمراض، بما في ذلك التوسُّع بخطى أسرع في استخدام تكنولوجيا الهندسة الوراثية لإنتاج العوامل العلاجية (مثل عوامل النموّ، والهرمونات) وكذلك إنتاج اللقاحات· ولا يخفى أن التغيّرات المتوقَّع حدوثها في المستقبل ستكون نتاجاً لما يحدث من تقدّم في مجال البيولوجيا الجزيئية والخلوية، وطرائق التصوير التشخيصية· فعلى سبيل المثال، سوف يساعد نظام حفظ الصور ونقلها، على إحلال الصور الرقمية digital محل أفلام الأشعة السينيّة· فنظام حفظ الصور ونقلها يُنتج صوراً رقمية يمكن تداولها، ونقلها بالوسائل الإلكترونية، وتخزينها على أقراص أو وسائط أخرى· ومن المتوقع كذلك حدوث توسّع في الأخذ بالإجراءات التشخيصية غير الباضعة non-invasive أي التي لا تتطلب استعمال المبضع، وذلك مثل الرنين المغناطيسي النووي لكامل الجسم أو لأعضاء معينة من الجسم، وهندسة الأنسجة· ومن المتوقع إنتاج علاجات رخيصة، وكبح سرعة ارتفاع التكاليف الطبية بتوجيه أنماط المعالجة نحو أسباب المرض لا عواقبه· كما أن من المتوقَّع تركيز الاهتمام في المعالجة على قياس الجرعات العلاجية، ومن ذلك المعالجة وفقاً لكثافة الفيروسات في الدم·

ونحن لا نفتأ نسمع ونقرأ عن التكنولوجيا الجينيّة التي يثار حولها الكثير من الجدل· إذ يخالج بعض الناس الشك في فوائدها ويشعرون بالقلق إزاء آثارها السلبية الخطيرة غير المنظورة على البشر والبيئة، من الناحية الأخلاقية· على حين يرى غيرهم أن التكنولوجيا الجينيّة تفتح الباب على مصراعيه لحل المشكلات المتعلقة بإنتاج الغذاء، والمتعلقة بصحة الإنسان والحيوان، والتي لا يتأتى، في زعمهم، حلّها بغير هذه التكنولوجيا· وليست المسألة في هذا الصدد قبول هذه التكنولوجيا قبولاً غير مشروط، أو رفضها رفضاً باتاً· فلابد من التفريق بين استخدامات التكنولوجيا الجينيّة تبعاً لأغراضها وما يمكن أن يترتب عليها من آثار·

ومن المتوقَّع أن تتغير هيكليات الرعاية الصحية تغيّراً هائلاً، بشكل أو بآخر، في شتى أرجاء العالم، بما في ذلك تغيُّر دور المستشفى· فمع انكماش المستشفيات من حيث عددها وحجمها، يُتوقّع منهـا أن تتحمل تدريجيـاً المسؤوليـة عن صحة المجتمع· ومن المتوقَّع إيلاء مزيـد مـن الاهتمام للتنبُّؤ الصحيّ المُرْتَكَز على ما يُدعى >بَصْمة الحمض النووي< “DNA fingerprint”، وأنماط المخاطر الصحية، والتبكير حيثما أمكن، في الوقاية من الأمراض، ومعالجتها· ثم إن التقدم في البحوث المتعلقة بالجينوم genome البشري أي مجموعة الجينات في الإنسان، من شأنه أن يكون ذا أثر ملحوظ على تشخيص الأمراض في المستقبل· كما أن التوسُّع السريع في ابتكار طرائق لتشخيص الواسمات markers الجزيئية (الطفرات الجينيّة) من أجل التشخيص المبكر للسرطان والأمراض الوراثية والأمراض المُعدية، من شأنه تحويل اتجاه الأنشطة التشخيصية صوب مجال الوقاية من الأمراض· ومن المتوقَّع انتشار استخدام ما يُدعى مِسْبَار الحمض النووي DNA probe، بما في ذلك استخدام هذه المَسَابير ]جمع مسبار[ لكشف الجينات الغريبة، مثل الفيروسات والجراثيم، ولتيسير التنبُّؤ بالمضادات الحيوية أو مضادات الفيروسات التي تكون الكائنات الحية حساسة أو مقاوِمة لها· ومن المتوقع استخدام تقنيات المسابير النووية في تشخيص السرطان والتنبؤ بمختلف الاستجابات المحتملة لمختلف ضروب المعالجة، وفي تعيين الأفراد الذين لديهم استعداد وراثي لبعض الأمراض·

ويجدر بالذكر أن هنالك اهتماماً متزايداً باستخدام البدائل الاصطناعية (كالأعضاء الاصطناعية التي تزرع في الجسم، مثل الرئة الاصطناعية، والكبد الاصطناعي، والحواسيب المُنَمْنَمة miniaturized التي تقوم مقام أجزاء تالفة في الدماغ تؤدي وظيفتها، وما إلى ذلك)، وذلك إبقاءً على الحياة·

ومن المجالات الرئيسية التي يُتوقَّع أن تقع فيها تغيّرات ملحوظة، مجال الاتصال، بما في ذلك تطوير الحواسيب ]الكمبيوتر[، وتمييز الأصوات، وحصر المعطيات (البيانات)، وتوافر نُظُم الفاكس، ونقل الصُوَر· ويجري دمج الوظائف السريرية في نُظُم معلومات المستشفى المعنية بالوظائف الإدارية والمالية، والقائمة بالفعل في العديد من المستشفيات، والتي تسمح بنقل المعلومات التشخيصية والعلاجية من مختلف المصادر·

ومن المتوقع أن يساعد التحليل المُحَوْسب computerized للمعطيات على التوصل إلى أسلوب متطور جداً لتشخيص الأمراض ورصد أثر المعالجة بواسطة النُظُم المتطورة· ومن المتوقع أن يساعد التحليل المُحَوْسَب للمعطيات الخام على تطوير الطرائق الفيزيائية غير الباضعة، مثل طرائق الرنين المغناطيسي النووي أو طرائق رنين التدويم الإلكتروني electron spin resonance للتشخيص المبكر للأمراض في الأشخاص المعرّضين لمخاطر الإصابة بها· علماً بأن مبادىء هذه الطرائق يجري تطبيقها على نطاق واسع في مجال الكيمياء التحليلية، ولكن لم يكن من الممكن تطبيقها في مجال التحليل الطبي إلى أن أمكن إيجاد برامج حاسوبية ملائمة لتقييم المعطيات الخام·

ويجدر بالملاحظة أن التقدم في مجال الاتصال عن بُعد يحفز على اللامركزية باتّجاه عيادة الطبيب أو بيت المريض· وقد ساعد عدد من ضروب التقدم التكنولوجي التي تحققت مؤخراً على نقل عدد متزايد من المصابين بأمراض حادة من المستشفى إلى البيت· وتشجّع التطورات التكنولوجية على توسيع نطاق الرعاية خارج المستشفيات· ومن الأمثلة على ذلك، إجراء عملية استئصال المرارة في بعض المراكز عن طريق منظار جوف البطن، من دون إدخال المريض إلى المستشفى، أو في مراكز الرعاية النهارية، التي لا حاجة معها إلى إقامة المريض في المستشفى ولو ليلةً واحدة· كذلك يمكن رصد السرطان في مراحله الانتهائية، وتفريج آلامه بواسطة الاتصال عن بُعد· ومن شأن تصغير أو نَمْنَمَة التقنيّات الباضعة أن تؤدي إلى تقليل الآثار الجانبيّة بتخفيضها مدة بقاء المريض في المستشفى (فقد أجريت مؤخراً عمليات مَجَازة bypass الشريان التاجي من دون اللجوء إلى جراحة القلب المفتوح، بحيث أمكن للمريض بعد إجرائها مغادرة المستشفى بعد يومين اثنين فقط من العملية !)·

وهنالك حالياً، بالمقارنة مع خمس سنوات مضت، زيادة هائلة في الطلب على خدمات التطبيب عن بُعد أو التطبيب البُعادي telemedicine· ولكي يكون التطبيب البُعادي ناجحاً، لابد له من أن يرتكز على تكنولوجيـا رخيصة نسبياً؛ ولا ينبغي النظر إلى كل ما هو رخيص على أنه عديم الفعالية·

ومن المتوقع أن يتواصل التغيّر التكنولوجي بخطى سريعة، مع مراعاة جودة الرعاية الصحية وتكاليفها· وعلى حين أن من المتوقع أن يستمر تطوير التكنولوجيا العالية التقنية بحيث تصبح أعلى مردوداً، يُنتظر أن تتجه التقنيات الصحية الحالية والمستقبلية إلى إيجاد معدات أكفأ وأسرع وأرخص وأسهل تشغيلاً·

غير أنه على الرغم من أن الاستثمار في تجديد التكنولوجيا الطبية قد ساعد على تحقيق تقدم ملموس في رعاية المرضى، إلا أن هذه التكنولوجيا متَّهمة بإشعال أسعار تكاليف الرعاية الصحية· ولما كانت التكنولوجيا الطبية هي أهم مكوّن يمكن التحكم فيه لنمو الإنفاق الصحي، فإن نجاح الاستراتيجيات الهادفة إلى تقييد نمو الإنفاق يعتمد على تأثير هذه الاستراتيجيات في نشر هذه التكنولوجيا· ويجدر بالملاحظة في هذا الصدد، أن الالتزام بضبط التكاليف الصحية قد يتعارض مع التجديد في مجال التكنولوجيا الطبية·

وبعد، فلابد عند اتخاذ قرار بشأن أي تكنولوجيا جديدة، إدراك ما إذا كانت هذه التكنولوجيا تضمن حصول الجميع بعدالة وإنصاف على الرعاية الصحية، أو ما إذا كان لن يستفيد منها إلا قلّة من الناس· ويتشكك البعض في قدرة التكنولوجيا على تلبية الآمال المفرطة التي تُعلَّق عليها· والحق أنه لابد من تقييم جودة الرعاية على أساس الاحتياجات الإنسانية والعلاجية للمريض، لا على جِدَّة التكنولوجيا المستخدمة أو مدى تطوّرها، كما هو الحال في الأغلب الأعمّ· ولابد، عند اختيار تقنيات جديدة، من دراسة مختلف ما تجلبه من فوائد اقتصادية ومهنيّة وشخصية· ولابد من بحث ما إذا كان استخدام تقنيات معينة يساعف العلاقات بين المرضى وبين العاملين الصحيين، أو يؤثر فيها تأثيراً سلبياً، ولاسيّما إذا كان هؤلاء العاملون يقضون معظم وقتهم في تنسيق المعدات وتقييمها وتشغيلها· ويلاحظ أن بعض الأطباء حالياً يتعاملون مع مرضاهم بطريقة آلية لا تختلف كثيراً عن التفاعل بين الوَجَائه interfaces في تكنولوجيا الحواسيب· ولا يخفى أن تطوير التقنيات له آثار بعيدة المدى على المواقف والسلوكيات وأنماط الحياة· فمما يؤسف له أن مهنة الطب تواصل الابتعاد عن أخلاقياتها المهنية المعهودة باتّجاه المصالح التجارية، والتحوُّل عن اتباع أسلوب المعالجة المباشرة إلى أسلوب المعالجة المعتمدة على التكنولوجيا· ولاريب أن هذه التحوّلات تؤثر في أخلاقيات الطب التقليدية ومبادئ الاستقلال المهني التي تسعى إلى تحقيق ما يتطلع إليه المريض من خير وإنصاف·

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى