مقدمة كتاب مفاهيم قيمية

لعل أوَّلَ وأبْرزَ المفاهيم القِيَمِيَّة التي جاء بها الإسلام، وهو “الدّين/القِيَم” كما وصفه ربُّنا عزّ وجل في سورة الأنعام 161،: أن الحرية أهمُّ من الحياة نفسها. بُرهانُ ذلك قول الله عز وجل في سورة البقرة: والفتنةُ أشدُّ من القتل 191، والفتنة أكبر من القتل 217. وذلك نصٌّ صريح على أن الفتنة – التي هي هنا “سَلْبُ الحرية” – أشدُّ من القتل – الذي هو (( سَلْبُ الحياة )) -. والنتيجة المنطقية لكون (( سلب الحرية )) أشدّ من (( سلب الحياة ))، أنَّ الحرية أهمُّ من الحياة ذاتها. وليس ذلك بغريب إذا تذكرنا أن إنسانية الإنسان تكمُن في هذه الحرية، وأن الله جلّ جلاله قد أسْجَدَ ملائكتَه الذين لا يملكون حرية الاختيار، سُجُودَ تكريم لهذا المخلوق الحرّ، الذي يستطيع بملء إرادته أن يؤمن أو يكفر، وأن يطيع أو يعصي، وأن يحسن أو يسيء. وهذا أمرٌ طبيعي تقتضيه قيمة أخرى من أهم قِيَم الإسلام، وهي قيمة (( العدل ))، مادام هذا المخلوق سوف يتحمّل المسؤولية الكاملة عن قراره هذا أمام الله عزّ وجل.
وأنتَ تجد النصَّ على هذه الحرية مبثوثاً في القرآن المجيد، من مثل قوله تعالى: في جانب العقيدة: فمن شاءَ فَلْيؤمن ومن شاء فَلْيكفر الكهف: 29، وقوله في جانب العمل: اعملوا ما شئتم فصلت: 40،اعملوا على مكانتكم هود:121، الزمر: 39 ؛وقد حَكَمَ سبحانه بأنه لا إكراه في الدين البقرة: 256. وقال لنبيه: لست عليهم بمصيطر الغاشية: 24؛ وما أنت عليهم بجبّار[ ]ق: 45؛ ولو شاء ربُّك لآمن مَنْ في الأرض كلُّهم جميعاً؛ أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟[ ]يونس: 99.
بل لعلّ الدافع الرئيسي للحروب التي خاضها المسلمون في وجه الطواغيت الذين كانوا يَسْتَضْعِفون شعوبهم ويفتنونهم عن حرية الاعتقاد، كان يتمثّل في أن يُضمَن لكل إنسان أن يتّخذ بملء إرادته قرارَه الحُرّ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة[ ]البقرة: 193: وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالمِ أهلُها، واجعل لنا من لَدُنْك وليّاً واجعل لنا من لَدُنْك نصيراً النساء: 74.
وقد يرى بعضُنا في ضوء هذا المفهوم الشامل، غرابةً في ورود نصِّ نبوي يقول: (( من بدَّل دينه فاقتلوه ))، وهو نصٌّ يُوهم بأن في ذلك عُدُولاً عن مَنْح الإنسان حريَّته في أن يؤمن إن شاء ويكفر إن شاء. ولكن مما ذُكر من أسباب ورود هذا الحديث، أن عدداً من يهود المدينة رسموا خطة لإضلال المسلمين، وذلك بأن يعلنوا إسلامهم في الصباح، ثم لا يلبثوا أن يكفروا في المساء، ثم يكرروا ذلك أياماً متعاقبة، مُحدِثين بذلك نوعاً من البَلْبَلة عند الناس، ولعل هؤلاء هم الذين ورد ذِكرُهُمْ في قوله تعالى ]وقالت طائفة من أهل الكتاب: آمِنوا بالذي أُنزل على الذين آمَنوا وجهَ النهار واكفروا آخرَه لعلهم يرجعون! ولا تؤمنوا إلا لمن تَبِعَ دينكم[ ]آل عمران: 72. فَمِنْ أجل قطع دابر هذه البلبلة التي حاولوا إحداثها قال النبي زجراً وتهديداً لهم بِوَصفه رئيس الدولة: (( من بدَّل دينه فاقتلوه )). وقد آتى هذا التدبير أُكُله وانقطع دابر هذه الفتنة بحمد الله.
فهذا نصٌّ ينبغي أن يُنظر إليه في ضوء أسباب وروده، لأن حُكْمَ الله عزّ وجل، سواءً جاء في وحي مَتْلُوٍّ أو وحي غير مَتْلُوّ، حُكْمٌ مُتَّسق ينبغي إعمالُه بجميع أبعاده ولا يجوز ضَرْب أحكام الشرع بعضها ببعض. وإذا فُهِمَ كلام النبي على هذا الوجه، أي على أنه تدبيرٌ من تدابير الشؤون العامة للدولة قرَّره النبي صلوات الله وسلامه عليه بوصفه رئيس دولة لا بوصفه مبلِّغاً لوحي الله عزّ وجل، يزول وهمٌ آخر قد يُحدث لَبْساً أوحيرة عند بعض الناس، لأنه يتحدث عن امرئٍ يبدِّل دينَه دون تسمية لهذا الدين. وإلا لانطبق هذا الوعيد على يهودي يتحوّل إلى المسيحية أو بوذي يتهوَّد، بل كلُّ من دَخَل في الإسلام من غير المسلمين قد بدَّل دينه إلى الإسلام!
وقد حاول الأخ الكريم الدكتور يحي رضا جاد تحرير هذه المفاهيم تحريراً مفصَّلاً جامعاً، فجاء هذا الكتاب اللطيف الذي بين يديك، والذي أرجو أن يستمتع كل قارئٍ له كما استمتعت، ويستفيد منه كما استفدت. والأخ يحيى شابٌّ متمكن (( جادّ ))، طلب العلم على أصوله، وسار على منهج أسلافنا من العلماء فأجاد، أسأل الله سبحانه أن يزيده تفقُّهاً في الدين ويُديم النَّفع به، ويُدخلنا وإياه برحمته في عباده الصالحين.
كتبت بواسطة أبو الحمد
محمد هيثم الخياط
في غُرَّة شهر رجب الفرد 1432
3/6/2001
