معلومات

العدل في الحضارة الإسلامية

يجدر بنا – كمسلمين – أن ننطلق دائماً في مواقفنا وأحكامنا، من قيمة من أهم قِيَم الإسلام، ألا وهي العدل، الذي هو الغاية الأساسية من إرسال الرُّسُل:

  • (لقد أرسَلْنا رُسُلَنا بالبيِّنات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناسُ بالقسط) [الحديد: 25]؛
  • وقد أمَرَ اللهُ الناسَ به أمراً عاماً:
  • (إن الله يأمر بالعدل)  [النحل: 90]؛
  • (أمر ربي بالقسط) [الأعراف: 29]؛
  • (اعدلوا؛ هو أقرب للتقوى) [المائدة: 8]؛
  • (أقسطوا؛ إن الله يحب المقسطين) [الحجرات: 9].
  • وأثنى على فئة صالحة من الناس (يهدون بالحق وبه يعدلون) [الأعراف: 159، 181].

 

وذكر في كتابه الكريم ما يدل على أنه ينبغي أن يتخلَّل كل شيء:

  • في القول: (وإذا قلتم فاعدلوا) [الأنعام: 152]؛
  • في الحكم: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) [النساء: 58]؛
  • في الإصلاح: (فأصلحوا بينهما بالعدل) [الحجرات: 9]؛
  • في القوامة: (وأن تقوموا لليتامى بالقسط) [النساء: 127]؛

 

وحذَّر مِنْ كل ما يمكن أن يُخِلَّ بالموقف العادل:

  • (فلا تتَّبعوا الهوى أن تعدلوا) [النساء: 135]؛
  • (ولا يجرمنَّكم ]يحملنّكم[ شَنَآنُ ]بغض[ قومٍ على أن لا تعدلوا) [المائدة: 8].
  • (كونـوا قوَّامـين بالقسـط شهـداء لله ولـو على أنفسكـم) [النساء: 135].

فحريٌّ بنا أن نلتزم بهذه القيمة العظيمة من قِيَم الإسلام في حديثنا عن العَوْلـَمَة، حتى نَقِفَ منها الموقف الصحيح الذي يُرْضي الله ويحقِّق مصالح العباد.

*

والعَوْلـَمَة ليست عفريتاً من الجنِّ خرج فجأة من القمقم، وليست خَلْقاً جديداً عجيبـاً لا عَهْدَ لنا به ولا قِبَل لنا به، ولكنها وَضْعٌ ألِفْناه منذ مولد حضارتنا وعشنا معه. فقد مارست الحضارة العربية الإسلامية ريقتها ضرباً فريداً من العَوْلـَمَة، ولكنها عَوْلـَمَةٌ على كلِّ حال. وعَوْلـَمَةُ اليوم ضربٌ آخر ولكنها عَوْلـَمَةٌ كذلك !

صحيحٌ أنَّ العَوْلـَمَةَ اليوم قد تغيَّر اتجاهُها، فأصبحت متَّجهةً من الغرب إلى الشرق بعد أن كانت عَوْلـَمَةُ الأمس متَّجهةً من الجنوب إلى الشَّمال…

وصحيحٌ أنها قد تغيَّرت سرعتُها، فأصبحت اليومَ تنتشر بسرعة لا يكاد يلحق بها الخيال…

ولكن تغيـيرَ الاتّجاه أمرٌ ينطلق من فِطْرة هذا الكون: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) ]آل عمران: 14…[

و(( تغيـيرُ السرعة لا يغيِّر من طبيعة العملية أو من طبيعة الـحَدَث، ولكنه – كما يقول أخونا العزيز الدكتور مراد هوفمان – يجعلها مخيفة أكثر ((.

فالسيارة التي تسير في العادة بسرعة أربعين ميلاً في الساعة، إذا ضاعفت سرعتها ثلاثة أضعاف أو أربعة، أصبحت مخيفة حقاً، وزادت حوادثها وصَدَمَاتُها، وزَلْزَلَتْ ما تصادفه في طريقها، ولكن ذلك كلَّه لا يغيِّر شيئاً من كونها سيّارة كسائر السيّارات، تجري لـمُسْتَقَرٍّ لها يعلمه الله.

*

وأكثرُ ما يخيف الناس من العَوْلـَمَة، ما تفعله بثقافتهم. والثقافة أمرٌ عزيزٌ على (( الإنسان (( لَصيقٌ بذاته، فهي تلك الأصول الثابتة التي تنغرس في نفسه منذ مولده ونشأته الأولى، حتى يشارف حدَّ الإدراك البيِّن، جِماعُها كلُّ ما يتلقَّاه عن أبويه وأهله وعشيرته ومعلِّميه ومؤدِّبيه، حتى يصبح قادراً على أن يستقلَّ بنفسه. فإذا استقلَّ، استبدَّ عقله بتقليب النظر، وإعمال الفكر، وممارسة التنقيب والبحث، ومعالجة التعبير عن الرأي. وثقافة الأمَّة، هي حصيلة ثقافات أبنائها، المثقَّفين بقَدْر مشترك، وهي مرآةٌ جامعةٌ – في حيّزها المحدود – كلَّ ما تَشَعَّثَ وتشتَّتَ وتباعَدَ من ثقافة كل فرد من أبنائها، على اختلاف مقاديرهم ومشاربهم ومذاهبهم ومداخلهم ومخارجهم في الحياة.

والحضارة هي المظهر المادي لهذه الثقافة. هي نتيجة استعمال المثقّفين بثقافة معينة لمعطيات العلم والتِّقانة (أو الصنائع – بتعبير ابن خلدون –( للارتقاء بالوضع المعاشي للإنسان. والثقافة تختلف عن الحضارة بأنها تناقش وتحاور وتؤثـِّر، ولكنها تبقى متمسكة بذاتيّتها، أما الحضارة فتنزع إلى تعميم نفسها ما استطاعت. ولذلك رأينا الحضارات الكبرى تتجلى في شكل عوالم: العالم الروماني والعالم الصيني… والعالم الإسلامي. ولقد مارست الحضارة العربية الإسلامية على طريقتها ضرباً من ((العَوْلـَمَة (( – كما يقول الأستاذ جورج طرابيشي – إذ دَمَجَتْ بهـا ما لا يقل عن عَشْر من الثقافات الكبرى (القبطية والبربرية والنوبية مغرباً، والسريانية واليونانية والفارسية والخراسانية مشرقاً مع قطاعات من الثقافتين الهنديـة والصينية، فضلاً عن الثقافتين العربية المسيحية والعربية اليهودية اللتين عاشتا في كَنَفها(. بل إنها تعدّت أفاعيل العَوْلـَمَة المعاصرة بما استحدثته من انقلابات جذرية ونهائية في ديانات شعوب تلك الدائرة الكبرى، وفي لغاتهم، وحتى في طبيعة تكوينهم البشري.

وهكذا فإن الثقافة تسعى إلى التفرُّد، والحضارة تسعى إلى توحيد الثقافات ودمجها. والعالم الحديث ينزع أكثر فأكثر إلى أن يكون موحّد الحضارة متعدّد الثقافات. وهذه الثقافات تُغني الحضارة الكبرى وترفدها بأصالاتها وخصوصياتها ولكنها تندمج بها في الوقت نفسه.

والعَوْلـَمَة المعاصرة تحاول أن تقوم على حضارة عالمية واحدة ينضوي تحتها عدد من الثقافات. والمؤسف أن كثيراً ممن ينتمون إلى الإسلام اليوم ينزلقون إلى موقف مُنْغَلق، ظانّين أنهم إنما يحققون ذاتهم بالقطيعة مع الحضارة “الأجنبية”.

وفي رأينا أن هذا موقف يحتاج إلى تصحيح. فالهجوم على الحضارة العالمية أو الانغلاق عليها، هو هجومٌ أو انغلاق على حضارة ورثت من الحضارة العربية الإسلامية الكثير. وإذا كنا نستنكر أو نضيق ذرعاً ببعض مساوئها، بل بكثير من مساوئها، فإن هذا لا يعني أن نتنكر لها ونحاربها وإنما ينبغي أن يدفعنا ذلك إلى إصلاحها من الداخل.

ويبدو أننا نميل إلى رفض كثير مما أنتجته هذه الحضارة، لارتباطها في أذهاننا بالثقافة الأمريكية أو الغربية بوجه عام. فنحن نرفع عقيرتنا ساخرين من “الكَوْكَلَة” و”الـمَكْدَلَة” أي ما يسمونه عَوْلـَمَة الكوكاكولا والماك دونالد، لأنها ترتبط في أذهاننا بالثقافة الأمريكية ونمط الحياة الأمريكي. وإلا فهذه العَوْلـَمَة قد سبقتها عَوْلـَمَة القهوة والشاي، وعَوْلـَمَة “الشاوُرمة” و”البيتسا”، ولم نجد في ذلك مِنْ قَبْلُ أيَّ حَرَج. وما حصل في مؤتمر السكان في القاهرة وفي مؤتمر المرأة في بكين، ماثلٌ في الأذهان.

وقد زاد من عدائنا للعَوْلـَمَة المنطلقة من الغرب، أن الأمر يتعدَّى عالمَ الأشياء، وهو عالم لا انتماء له في حقيقة الأمر، إلى عالمَ القِيَم. فالغربيون يؤمنون إيماناً لا يقبل المناقشة، بأنهم دائماً على صواب، وبأن المستوى الصَّوَابَّي للقِيَم هو المستوى الذي حدّدوه هم. أما قِيَم الآخرين فإنهم يجهلونها أو يَزْدَرُونها، بل يحاولون أن يفرضوا قِيَمهم على الآخرين.

ويهمني في هذا الصدد أن أشير إلى موقف من المواقف الواعية في هذا المقام. ففي الوقت الذي نجد فيها بعض غلاة الإسلاميين يريدون أن يبرؤوا إلى الله من “فتنة” التكنولوجيا الحديثة بخيرها وشرها وحلوها ومُرِّها وما يُحمـد منها وما يعـاب، نجـد الدكتور يوسـف القرضـاوي فقيهَ العصر، لا يتردد في الاستفادة من الثورة الإلكترونية التي هي جزء من العَوْلـَمَة العلمية. ويقول عن مشروع خدمة الإسلام على الإنترنت Islam on line: “إن هذا المشروع الذي ننشده ونحشد له الجهود والجنود والنقود هو في رأيي جهاد هذا العصر… ونحن بهذه الآليات الحديثة – وعلى رأسها الإنترنت – نستطيع أن نصل إلى الشعوب ونخاطبها بألسنتها المختلفة في أنحاء الأرض”. كما يقول: “وواجب المسلمين أن يستخدموا هذه الأداة للدعوة إلى هذا الدين العظيم وعلى الأمة الإسلامية أن تهيء رجالاً يقومون بذلك”.

العَوْلـَمَة إذن ينبغي أن لا تخيفنا. ومادمنا نؤمن بأصالتنا ونَعي ثقافتنا، ونؤمن في الوقت نفسه بالحوار والانفتاح على الآخر، ونؤمن بالعلم النافع إيماناً ليس له حدود، فإن هذه العَوْلـَمَة تمثل بالنسبة إلينا – إذا أحسنّا الاستفادة منها – جواً صحياً يتيح لنا تعريف الناس بافكارنا وقِيَمنا وأخلاقنا، كما يتيح لنا مجالاً نحقق فيه ذاتنا من خلال رَفْدِ العلم العالمي والحضارة العالمية بما نستطيع.

نحن لا نعادي الثقافات الأخرى وإنما نناقشها ونجادلها ونحاورها. ولا يجوز لنا ونحن نشكو من الاستشراق أن نمارس استشراقاً معكوساً يفضي بنا إلى أن نخرج على حضارة العصر، ونخرج منها إما إلى اللاحضارة وإما إلى حضارتنا العربية الإسلامية القديمة التي مازالت – في رأيي – ماثلة في حضارة العصر بما صلح أن يبقى منها في حضارة العصر. وسوف يكون موقفاً مشرفاً لنا، أن نضيف إلى هذه الحضارة العالمية ما ينقصها من روح وخُلُق ومُثُل وقِيَم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى